المشروع المجتمعي للإمام عبد السلام ياسين رحمه الله وتحديات زمن الحداثة

Cover Image for المشروع المجتمعي للإمام عبد السلام ياسين رحمه الله وتحديات زمن الحداثة
نشر بتاريخ

اهتم الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله ببحث التحديات التي تواجه المشروع المجتمعي الذي ضمنه فكره المنهاجي. وأشير بداية إلى أن مفهوم الحداثة مفهوم ملتبس، لا نجد تعريفا موحدا له؛ إذ اختلفت التعريفات باختلاف التوجهات والإيديولوجيات. وخلاصة هذه التعريفات أن الحداثة نمط حياة وعمل وتفكير ظهر في الغرب. وهذا التعريف ليس بعيدا عما ذهب إليه الإمام عبد السلام رحمه الله حين قال: “لقد أصبحت لفظة الحداثة رائجة في فرنسا الظافرة منذ الخصام الأدبي بين أنصار الجديد وأنصار القديم في القرن السادس عشر. منذ ذلك الحين، أضحت الحداثة الضاربة بجذورها في عصر النهضة التي أيقظت أوربا من سباتها الوسطي منهج الحياة والتفكير والحكم، معلما يسترشد به الإنسان الأوربي، أسلوبا اجتماعيا وثقافيا للحياة مناقضا لعصر وسيط أصيل ولعالم خارجي محكوم عليه بالهمجية ثم بالاستعمار والتخلف والإذلال. فتجاوز العالم الخارجي واحتقاره بل الاعتداء عليه عواطف حركت ولاتزال تحرك الحداثة ضد عالم منبوذ لا يستحق التمتع بالكرامة الحديثة.” 1

إن لهذه الحداثة خصائص، تتمثل في التقدم والديمقراطية والعلمانية والرأسمالية وتفوق القوة، والسوق الحرة، والعقلانية والفردية والكونية. 2. وهذه الخصائص لها تأثيرها الكبير على المواقف من الحداثة نظرا لما تمثله من تحديات للهوية الإسلامية والمشروع الإسلامي.  

فما هي هذه التحديات التي تواجه المشروع المجتمعي في زمن الحداثة؟

1- الدين والعلمانية

ترتبط العلمانية بألفاظ مثل الحيادية واللائكية. وهذه الألفاظ تختلف مدلولاتها باختلاف مرجعية المفكرين وكذلك باختلاف اللغة المستعملة. لذا، فالإمام ياسين رحمه الله يفضل استخدام لفظ اللائيكية في كتاباته العربية لأن كلمة اللائكية تعني ذاك الفصل الحاد بين السياسة والدين. يقول: “اللائيكية قلب الحداثة الفرنسية، أما العلمانية -الشكل الأخَفُّ والأكثر تصالحية لفصل الدولة عن الكنيسة- فتمثل الطريقة الحديثة لأن تكون ديموقراطيا ومتسامحاً في مذهب الأوربيين الآخرين. إقصائية لائيكية مناضلة في فرنسا وعلمانية مسالمة في البلدان الأوربية، ذلك أن الرفض العنيف للكنيسة الكاثوليكية تم منذ قرنين في باريس وليس في برلين أو لندن”. 3

ومن جهة أخرى يوضح بيتر برجر أن العلمانية لا يمكن أن تطبق على حضارات غير الحضارة الأوربية، وذلك لارتباطها بأوربا وخصوصية نشأتها بها 4. من هنا نتساءل: ما مكانة الدين عامة، والإسلام خاصة، في عالم العلمانية؟

يوضح الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله أن “اللائيكيين الذين يحكموننا حاليا يبادرون إلى الإشارة في دساتيرهم -إن كان لديهم دستور – إلى أن نظامهم إسلامي. فاللائيكية الفرنكفونية في ديارنا مثلها مثل العلمانية الأنجلوفونية في غير ديارنا تُمارس كمفهوم وكـ«ديانة» حديثة، لكنها لا تستعلن أمام شعب متشبث بهويته، رغم انحرافاته الفردية أو الجماعية. أما في أوربا، فقد نتج عن مسلسل سلخ المجتمع عن مسيحيته انفصال تام عن كل دين عدَا دين الحداثة وما بعد الحداثة” 5.

إن إنسان اليوم ليس له وقت للتفكير في الدين وفي القضايا الدينية، بل إن حياته كلها محاطة بالمادية، والشغل الشاغل هو أن يعيش ويعيش أطول ما يمكن. يقول الإمام رحمه الله واصفا هذه الوضعية: “أما الإنسان الحديث فلا يملك وقته: تتقاذفه قيود مواقيت العمل وتستعجله، فيسارع إلى التحرر منها حالما تواتيه الفرصة ليخصص وقت فراغه لإشباع غرائزه والانغماس في لهوه وعربدته”.

2- المسلمة الدوابية والإنسانوية

يقصد الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله بالمسلمة الدوابية الفرضية الداروينية. وقد اقتبس هذه التسمية من القرآن الكريم في آيتين من نفس السورة: قوله تعالى: إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ‎(الأنفال: 22‏)، وقوله تعالى: إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‎(الأنفال: 55).

يريد الإمام رحمه الله بهذا أن يصف حالة الإنسان اليوم الذي لا يعرف خالقه، ولا أين سيذهب بعد هذه الحياة، ولا يعرف رسل الله ولا رسالاتهم، كما لا يدرك أيضا أن حياته على هذه الأرض سيجازى عنها إن شرا فشر وإن خيرا فخير. وهذه نقط الحياة الأكثر تعقيدا.

تؤمن الحداثة بالإنسان، إنه إله نفسه. وهكذا، نجد أنفسنا أمام دين جديد يدعى بالإنسانوية Humanism. إنها ليست فقط منهج تفكير، وإنما هي أيضا عقيدة من يبحث أن يكون سعيدا.

يحدد كوليس لامونت 6 مجموعة من المبادئ الأساس التي تميز الفلسفة الإنسانية عن باقي الفلسفات، منها: أن الفلسفة الإنسانية، باعتبارها الدين الأعلى للإنسانية، تؤمن أن البشر يملكون قدرة وقوة لحل المشاكل، وأنها تؤمن، بخلاف كل النظريات الكونية، أن للبشر حرية حقيقية للاختيار والفعل المبدعين، وهم أيضا الأقدر على توجيه أقدارهم ضمن الحدود الموضوعية، وتعتقد أن الفرد يصل إلى الحياة السعيدة بالجمع بين الرضى عن النفس والتنمية الذاتية المستمرة من جهة، وبين العمل المعتبر والأنشطة الأخرى التي من شأنها الإسهام في إسعاد الجماعة من جهة أخرى، كما أنها تؤمن بالتوظيف الاجتماعي الكامل للعقل وللمنهج العلمي. وارتباطا بالمنهج العلمي، تؤمن الفلسفة الإنسانية بلا نهاية السؤال حول الافتراضات والاقتناعات الأساس بما فيها اقتناعاتنا ومعتقدتنا.

3- العقل والعقلانية

لن نتيه في بيان قيمة العقل وأهميته في الحياة الإنسانية، ولكن نتوقف عند ركيزة من أهم ركائز الحداثة وهي ركيزة العقلانية. إن الناس اليوم يخشون أن يوصفوا بغير ذلك إن هم آمنوا بالمغيبات، ويعتبرون ذلك منقصة في شخصيتهم وعلمهم. يقول الأستاذ ياسين موضحا أسباب ذلك: “ما من إنسان يريد أن يكون “على مستوى العصر” يرضى أن يوسم باللاعقلانية. ومما يزيدُ المتفرنجين والملحدين جرأةً على الدين، وَوَلُوعاً بالسخرية من الغيب، وممن يومن بالغيب، أنه نشأت بين المسلمين في عصور انحطاطهم خرافاتٌ هي عينُ التنكر للدين، مثلُ عبادة القبور، ونسبةُ التأثير للعزائم، والشعوذةُ، والحجُّ للمغارات، والكهانةُ، وما إلى ذلك. فيبدو المومن بالغيب الحق من جِنٍّ، ومعجزة للأنبياء، وكرامةٍ للأولياء وكأنه من جملة المخرفين” 7.

يرفض الإمام رحمه الله انهزام المسلم أمام طغيان الحضارة المادية العقلانية رغم بهرجتها وإغراءاتها. كما أنه لا يبالي بهذه العقلانية ما دامت عقلانية تقصي الإيمان. بل إنه لا يرى قيمة إضافية للمؤمن تضيفها هذه العقلانية. وهذا موقف يعبر عن الاعتزاز بالانتماء العقدي في زمن طغت فيه العقلانية وأصبحت سيفا يشهر في وجه كل مؤمن بالدين والوحي، وفي زمن الأمة الإسلامية أمة منحطة مهزومة.

فما معنى أن تكون عقلانيا؟

يقول برتراند راسل في رسالته: لماذا أنا عقلاني؟: “في هذا الزمن، حيث دعوات ضخمة إلى اللاعقل، أنا عقلاني، غير نادم ولا تائب، أنا عقلاني منذ أن وعيت. ولا أرتئي أن أتوقف عن ذلك مهما تعالت الدعوات إلى اللا عقل… يجب أن ننتبه إلى أن موقف العقلانية التي أعرّفها بأن لا أعتقد، أو أدفع الآخرين إلى الاعتقاد بشيء إلا إذا كان هناك على الأقل علة أو مبرر يفترض صحة ذلك، موقف واسع الانتشار …8.

لقد كان برتراند راسل فيلسوفا عقلانيا غير مؤمن بالنصرانية، بل لم يكن يؤمن بدين ما أصلا. وهذا ما جعل تصوره للعقلانية تصورا مناقضا للدين، كما بين في كثير من مكتباته.

إن هذا النوع من التفكير يبين إلى أي حد وصل التسطيح الفكري بالإنسان المعاصر الذي أصبح لا يؤمن إلا بالماديات والمحسوسات بدعوى العقلانية.

ويلفت الإمام رحمه انتباهنا إلى أن العقلانية نوعان:

– عقلانية فلسفية: وهي التي نحن بصدد الحديث عنها، وهي المقصودة…

– عقلانية علمية: وهي العقلانية التجريبية العلومية التي حققت التقدم الصناعي لأوربا وازدهارَ العلوم والفنون وتنظيمَ الحياة والديمقراطيةَ… كل هذا مقابل انحطاط شامل وعلى جميع المستويات في بلاد المسلمين. وهذا ما يدفع كثيرا من مفكري المسلمين المعاصرين إلى التظاهر بمظاهر العقلانية في خطاباتهم وكتاباتهم خوفا من رميهم بالتخلف، فيؤصلون للعقل من القرآن. أما المثقف المغرب فقد سحب “اندهاشه على كل إفرازات العقل المعاشي، وأضفى القداسة على الفلسفة الشاركة الوجودية المادية المنكرة للوحي الشامتة بالدين” 9.

إن العقلانية الفلسفية تتقوى بالعقلانية العلمية التجريبية لتؤكد نبذها للدين والوحي، وتنشر تأليهها للعقل ولائيكيتها ولا دينيتها. وهذا ما لا يتفطن إليه كثير من أبناء المسلمين. يقول موضحا ذلك: “باقتران الكفر الفلسفي مع ازدهار العلوم، وتوسع الكشوفات، ووفرة الخيرات تنطمس في عين المبهور بالأشياء، وحضارة الأشياء، والسيطرة على الأشياء كل آفاق المعرفة، وتنغلق عليه حلقة الفكر الوضعي، فلا يسمع المغرب غير نغمة واحدة، ولا يبصر ولا يتكلم ولا يبالي. انغلقت به الفكرة الوضعية العقلانية الفلسفية المادية عن سماع خبر الغيب ووجود الله وبعثه الرسل عليهم السلام، وعن سماع خبر الآخرة وما أعد الله فيها من نعيم للمومنين، ومن خزي ونكال للكافرين…” 10.

هذه أهم التحديات التي تواجه المشروع المجتمعي للإمام عبد السلام ياسين رحمه الله في زمن الحداثة، وهي تحديات فكرية إيديولوجية قبل أن تكون تحديات سياسية. هذا وإن المشروع المجتمعي للإمام رحمه الله مشروع يقوم أولا على قاعدة الإيمان بالله واليوم الآخر، تسري فيه روح قرآنية نبوية، تسمو فوق كل ما هو مادي دنيوي. فكيف يمكن تجاوز هذه التحديات؟ 


[1] عبد السلام ياسين، الإسلام والحداثة، ص 44-45.
[2] Martin Slattery,  Key ideas in Sociology ,  p.131.
[3] الإسلام والحداثة، ص 73.
[4] Peter L. Berger, Secularism Falsified, in First Things, (American Journal of religion, February 2008).
[5] الإسلام والحداثة، ص 74.
[6] Coliss Lamont, Philosophy of Humanism, p13-15.
[7] عبد السلام ياسين، إمامة الأمة، ص 122-123.
[8] Russel, Bertrand, Why I am a Rationalist?
[9] عبد السلام ياسين، حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، ص 42.
[10] نفسه ص 43.