المنهج النبوي في تقويم سلوك الشباب.. قصة خوات بن جبير رضي الله عنه نموذجا

Cover Image for المنهج النبوي في تقويم سلوك الشباب.. قصة خوات بن جبير رضي الله عنه نموذجا
نشر بتاريخ

يعتبر المنهج النبوي في تقويم السلوك الخاطئ أعظم مدرسة في فن التربية، وإرثا نبويا كبيرا يمكن أن يتعلم منه الآباء والمربون أساليب تعديل السلوك البشري بشكل عام، والشباب بشكل خاص.

 فمشكلتنا اليوم ليست في الأخطاء التي يقوم بها أبناؤنا وشبابنا، ولكن المشكلة الحقيقية في كيفية معالجة الخطأ بطريقة سليمة، نمزج فيها بين مطلبي تقديم النصيحة؛ لأنها من الدين، والحرص على الرفق في القول والفعل.

 كان خوات بن جبير رضي الله عنه صحابيا، شابا، أنيقا في مقتبل العمر، حديث العهد بالإسلام، نقي السريرة؛ تربى في كنف النبي صلى الله عليه وسلم.

يحكي لنا قصة رائعة بلسان صادق، وقعت له مع المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ كيف عايش تجربته مع الخطأ بكل تفاصيلها، الزمانية، والمكانية، والنفسية. وكأننا نراها من داخله. تجربة كانت لصحبة الرسول صلى الله عليه وسلم ودعائه له فيها؛ الأثرُ البليغ في تغيير شخصيته تغييرا جذريا.

 فقد روى الطبراني أن خوّات بن جبير -رضي الله عنه- قال: «نزلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مُرّ الظهران، قال: فخرجت من خبائي- أي خيمتي- فإذا أنا بنسوة يتحدثن، فأعجبنني. فرجعت فاستخرجت عيبتي – حقيبتي- فاستخرجت منها حلة فلبستها، وجئت فجلست معهن، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبّته فقال: أبا عبد الله، ما يُجلسك معهن؟ فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم هبته، واختلطت، قلت: يا رسول الله: “جمل لي شرد فأنا أبتغي له قيداً، فمضى واتبعته”، فألقى رداءه، ودخل الأراك كأني أنظر إلى بياض متنه في خضرة الأراك، فقضى حاجته وتوضأ فأقبل ظاهراً -راجعاً- يسيل من لحيته على صدره أو قال يقطر من لحيته على صدره، فقال صلى الله عليه وسلم: «أبا عبد الله، ما فعل شراد جملك؟»، ثم ارتحلنا، فجعل لا يلحقني في المسير إلا قال: «السلام عليك أبا عبد الله، ما فعل شراد ذلك الجمل؟»، فلما رأيت ذلك تعجلت إلى المدينة واجتنبت المسجد والمجالسة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما طال ذلك تحينت ساعة خلوة المسجد فأتيت المسجد فقمت أصلي، وخرج رسول صلى الله عليه وسلم من بعض حجره فجأة فصلى ركعتين خفيفتين وطوّلت رجاء أن يذهب ويدعني، فقال: “طوِّل أبا عبد الله ما شئت أن تطول، فلست قائماً حتى تنصرف.” فقلت في نفسي: “والله لأعتذرن إلى رسول الله ولأبرئنّ صدره.” فلما قال: «السلام عليك أبا عبد الله ما فعل شراد ذلك الجمل؟»، قلت: والذي بعثك بالحق ما شرد ذلك الجمل منذ أسلمت، فقال صلى الله عليه وسلم: رحمك الله ثلاثاً، ثم لم يعد لشيء مما كان”. 1.

قصة، زاخرة بالعديد من وسائل ضبط سلوكيات أبنائنا وشبابنا، وتقويم أخطائهم، ومساعدتهم على مقاومة الشهوات ومكائد الشيطان.

أسلوب الرفق والمداعبة

من بداية القصة إلى نهايتها، لم يتخل النبي صلى الله عليه وسلم عن مناداة الصحابي الجليل بكنيته المفضلة والمحبوبة له (أبا عبد الله) رحمة له، ورفقا به، رغم وقوعه في الخطأ. وهذا مما لاشك فيه درس تربوي يستفيد منه المربون في تعديل سلوكيات الغير، بالاحترام والتقدير، بدل أسلوب الفضاضة، والغلظة التي تكسر القلوب وتجرح المشاعر. كما أن الحبيب المصطفى، استعمل أسلوبا رقيقا ينطوي على حس المداعبة، لدرجة أن الحياء والندم، بلغ مداه في نفسية الصحابي الجليل، وحفظ له تقدير نفسه والرقي بها عن الخطأ.

كيف لا وهو الذي قال عليه أفضل الصلوات: “إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف.2.

لذا ينبغي أن (يكون من صلب التربية والتعليم النظر في أمثلة حلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأناته وصبره، وتحمله، وشفقته على الخلق ليكون ذلك نموذجا يحتذى.) 3.

أسلوب الستر والكتمان

عدم التحدث بالأخطاء التي يرتكبها المخطئ، خاصة إذا حاول إخفاء أخطائه (فإن إظهار ذلك عليه ربما يزيده جسارة حتى لا يبالي بالمكاشفة، ولكن يعاقب سرا ويعظم عنده أمر ما وقع.) 4، فالرسول صلى الله عليه وسلم اتبع منهجا واضحا وهو: “لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم.” بما اقترف.

وهذا ما نلاحظه في مجريات القصة التي بين يدينا فتفاصيل أحداثها لم تتعد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يعرف عنها أحد، ولم تصلنا إلا من خلال رواية الصحابي الجليل خوات بن جبير رضي الله عنه.

أسلوب الاحتواء لا المواجهة

منطق الاحتواء يعطينا أملا كبيرا في بناء علاقة متينة مع المخطئ، وهو أسلوب يحتاج إلى الصبر والهدوء، حتى تثمر هذه العلاقة لضمان استمراريتها.

علاقة، تفاعلية، تعاونية، تشاركية، تفتح لنا نافذة الحوار مع أبنائنا وشبابنا. علاقة تساعدنا على فحص واستكشاف ما يعتقده المخطئ صحيحا، وما نعتبره نحن كمربين سلوكا خاطئا. علاقة تؤهلنا لكسب ثقة أبنائنا فيفتحوا لنا قلوبهم وعقولهم ليتلقوا المفاهيم والأفكار والتوجيهات السليمة، قصد التحلي بها، والتخلي عن المعتقدات والسلوكيات غير السوية.

فالرسول صلى الله عليه لم يعقب على خوات بن جبير رضي الله عنه في الحال، ولم يتهمه بالكذب، ولم يعاتبه، ولم يواجهه بحقيقة السبب الذي أجلسه مع النسوة. ومن شأن هذه الطريقة أن تُبقي باب الحوار مع الشخص المخطئ مفتوحا، ومن خلالها يمكن معالجة السلوك الخاطئ وتقويمه.

في حين، منطق المواجهة والتصعيد يولد لدى المخطئ الاحساس بالمظلومية، فتهتز الثقة بين الطرفين ومن ثم تقطع العلاقة، فيلجأ المخطئ الى البحث عن مرجع آخر يبوح له بهمومه ومشاكله وأخطائه.

المصاحبة والدعاء

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (عليكم بإخوان الصدق، فإنهم زينة في الرخاء، وعدة في البلاء.) 5.

فالأخيار الأبرار الأتقياء إذا وجدوا في مجتمع جذبوا شبابهم وانجذبوا إليهم، وسرى تيار المحبة بينهم، والصاحب ساحب، كما يقال، فإما يسحبك بنورانيته إلى السعادة الحقيقية. وإما يجرك الى الهاوية.

فأسلوب مصاحبة الآباء لأبنائهم، خاصة في مرحلة المراهقة والشباب أمر في غاية الأهمية، لما لها من دور كبير في منح الشباب المخطئ الإحساس بالأمن والشعور بالمودة والقرب، والتقدير والاحترام. فلنبحث لأبنائنا وشبابنا عن صحبة الأخيار لأن من شأنها أن تورث الإيمان، وتعدل من سلوكياتهم بطريقة نبوية حكيمة. فالصاحب الصالح يأمر بالخير وينهى عن الشر، ويعلم العلم النافع، ويعرفك بعيوب نفسك، ويذكرك بالله، وهذا ما فعله الرسول صلى الله عليه مع الصحابي الجليل منذ انطلاق رحلتهما إلى أن وصل المدينة. رحلةٌ بدايتها مصاحبة ومواكبة وتفقد، ونهايتها دعاء ورحمة نبوية أثمرت يقظة قلبية أدرك من خلال صفاء سريرته ما معنى الكينونة مع أنبياء الله وأوليائهم.

رضي الله عنك يا خوات بن جبير، كنت في طريقك إلى غزوة بدر الكبرى فكُسرت رجلك فرجعت، فقضى لك الرسول صلى الله عليه وسلم بسهمك وإن لم تشارك، حكيت لنا قصة مليئة بالعبر والعظات، لم تصلنا إلا من طريقك رضي الله عنك وأرضاك.

 

 

 


[1] المعجم الكبير للطبري.
[2] حديث أخرجه البخاري في صحيحه.
[3] المنهاج النبوي.
[4] أخرجه البخاري في صحيحه.
[5] عمر بن الخطاب.