الميثاق السياسي والمسألة الدستورية في الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان (2)

Cover Image for الميثاق السياسي والمسألة الدستورية في الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان (2)
نشر بتاريخ

الفرع الثاني: السلطة التأسيسي الجماعية مدخل للدستور التوافقي

تقترح الوثيقة السياسية لصياغة الدستور الديمقراطي التوافقي التمسك بالأشكال الديمقراطية لوضع الدستور، وتضع في المقام الأول ما يسمى في الفقه الدستوري بـ”الجمعية التأسيسية غير السيادية”، وهي السلطة التأسيسية الأصلية؛ مما يعني انتخاب الشعب لهيأة تضع مشروع الدستور، ثم يطرح هذا المشروع على الشعب في استفتاء عام حر ونزيه من أجل قبوله أو رفضه 1.

فما هو مفهوم السلطة التأسيسية الأصلية؟ وما جذورها التاريخية في التجربة الدستورية المغربية؟ وما المدخل الذي تقترحه الوثيقة السياسية في هذا السياق لدمقرطة هذه السلطة في أفق صياغة دستور ديمقراطي؟

تعتبر السلطـة التأسيسيـة الأصليـة (Pouvoir constituant originaire)، هي المسؤولـة عـن وضـع الدستـور (نتحدث عن وضع الدستور وليس المراجعة) تسمـى وهي لا تعمر طويلا، وتنشأ في ظل الفراغ القانوني (غياب مقتضيات دستورية تحدد وضع الدستور) وتختفي مباشرة بعد وضعه.

ويربط الفقيه الفرنسي كاري دي مالبيرك (CARRE DE MALBERG) مبدأ فصل السلط بنظرية وجود السلطة التأسيسية الأصلية؛ أي وجود سلطة وحيدة unique سامية suprême مطلقة absolue بدئية initiale، يكون وجودها سابقا للسلطات الثلاث (السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية)، بحيث تتولى وضع دستور تحدد فيه توزيع الاختصاص بين هذه السلط بكل حرية.

والسلطة التأسيسية هي الممثل الحقيقي للأمة، ويجب أن تتولاها جهة تكون قريبة جدا منها 2، تتمتع بالسيادة، ولها سلطة عامة، غير مشروطة وغير محدودة، ولا يجوز أن تتلقى الأوامر أو تلصق بها صبغة التنفيذ.

في التجربة المغربية ظل الملك محتكرا للسلطة التأسيسية الأصلية منذ دستور 1962، واستمر الصراع محتدما بين القوى السياسية والقصر حول طبيعة السلطة التأسيسية 3، بين مطلب الجمعية التأسيسية 4 ورؤية الملك لمنهجية الإصلاح الدستوري 5. لكن الحسم في هذا المنطق كان رهينا بميزان القوى الغير المتكافئ. 

وفي هذا السياق، ولمواجهة الحركة الوطنية، وظفت المؤسسة الملكية مجموعة من الآليات التدبيرية والمؤسساتية، أبرزها الاستعانة بالنخب القروية، حيث أدرك النظام السياسي في وقت مبكر جدا بأنه بالاستناد على هذه النخب سيتمكن من التحرر من قبضة الحركة الوطنية 6، وهكذا سيتم إقبار مطلب الجمعية التأسيسية المنتخبة، بل سيدخل هذا المطلب متحف التاريخ الدستوري المغربي على حد تعبير محمد المعتصم 7.

ويرى الباحث المغربي الأستاذ محمد منار باسك في دراسة دستورية تحت عنوان “دستور 2011 في المغرب: أي سياق؟ لأي مضمون؟” نشرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 8، بأن المسألة الدستورية لم تشكل على أهميتها أولوية عند جل الأحزاب السياسية لحظة حصول المغرب على الاستقلال، بحيث تم الاهتمام بقضايا أخرى كالانتخابات وتنظيم الإدارة المغربية وغيرها 9، وكانت النتيجة أن تأخر المغرب في إقرار أول دستور إلى سنة 1962 رغم أنه حصل على الاستقلال سنة [22]1956. فست سنوات من الفراغ الدستوري 10، أو من الوقت الضائع كما سماها الأستاذ عبد الهادي بو طالب 11، شكلت مفارقة واضحة في التأسيس الدستوري، علما أن ذلك الوقت الضائع شكل فرصة لدى الملك الحسن الثاني لتغيير ميزان القوى لصالحه، بحيث أصبح المالك الفعلي والوحيد لسلطة تأسيس الدستور.

ويضيف الباحث قائلا بأن ممارسة الحياة الدستورية بالمغرب لم تكن إلا في فترات متقطعة، فالعمل بأول دستور، الذي جاء متأخرا، لم يدم سوى 18 شهرا و19 يوما 12، لتتوقف بعد ذلك كل مظاهر الحياة الدستورية بفرض حالة الاستثناء، التي دامت 5 سنوات، وحتى بعد وضع دستور 1970 فإنه سرعان ما عادت البلاد إلى حالة الاستثناء دون أن يعلن رسميا عن ذلك 13، ليتم وضع دستور جديد سنة 1972 إلا أن العمل به لم ينطلق فعليا إلا سنة 1977 14.

ويسجل أيضا أن لحظات التعديل الدستوري أسهمت بشكل واضح في إضعاف الأحزاب السياسية بالمغرب، فمن جهة تصدعت بعض الأحزاب والتحالفات السياسية بسبب الموقف من الدستور 15. ومن جهة ثانية، عرفت الأحزاب السياسية ضبطا دستوريا من مراجعة دستورية إلى أخرى 16.

ولذلك نجد الوثيقة السياسية تعتبر أن احتكار السلطة التأسيسية أحد الأعطاب البنيوية الأساسية التي أسهمت وتسهم في انغلاق النسق السياسي المغربي، وتحكم على مساره بالاختلال، وعلى نظام الحكم فيه بالمركزة والسلطوية، ثم تقترح مدخل السلطة التأسيسية الجماعية لصياغة دستور ديمقراطي.

كما تقترح الوثيقة أن تكون هذه السلطة التأسيسية غير سيادية، بمعنى أن تكون الكلمة الأخيرة للشعب باعتباره صاحب المبادرة الدستورية، حيث يتم انتخاب جمعية تأسيسية تضع مشروع الدستور لكنه لا يصبح نافذا إلا بعد عرضه على الاستفتاء الشعبي ليكتسب مشروعية القوة القانونية بالتصديق الشعبي.

ولعل من المقترحات الجريئة في الوثيقة والجديرة بالدراسة والتأمل أن يتم تقديم مترشحين في لوائح انتخابية مشتركة، لتجاوز منطق الغلبة والاحتكار، ولطمأنة الفرقاء والشركاء من خلال آلية العمل المشترك.

وصفوة القول، فإن الميثاق السياسي والدستور التوافقي، يعتبران من أهم العناصر التي جاءت بهما الوثيقة السياسية لجماعة العدل والاحسان كمداخل استراتيجية عملية في سيرورة البناء الديمقراطي، إذ تعتبر الوثيقة أن الحوار الوطني مقدمة أساسية لترسيم ميثاق سياسي تأسيسي يتضمن المبادئ الفوق الدستورية التي تعكس الرؤية الاستراتيجية للمغاربة، ويشكل إطارا مرجعيا من خلاله يتوافق الجميع على خطوات البناء ومنها خطوة الدستور الديمقراطي التوافقي الذي لن يتم إلا بالتقاء الإرادة الشعبية بتطلعات النخبة السياسية من أجل مغرب العدل والكرامة والحرية.


[1] الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان، ص: 37.
[2] HAURIOU (M.), Précis élémentaire de droit constitutionnel, Librairie du recueil SIREY, 2ème édition, Paris 1930, p. 79.
[3] هي السلطة المختصة بوضع الدستور وتتميز السلطة التأسيسية الأصلية عن الفرعية في أن الأولى تنشئ دستورا جديدا، إنها تتدخل في انقطاع للشرعية أي في حل للاستمرار من نظام لآخر إما لعدم وجود دستور وإما لأن الدستور القديم لم يعد معمولا به بسبب انقلاب أو ثورة، وفي المقابل ترجع الاستمرارية الدستورية إما لتعديل الدستور الجاري به العمل وإما عن طريق مراجعة إجمالية ولكن وفقا للإجراء الذي ينص عليه الدستور إلى التأسيسية الفرعية أي إلى المؤسسات الدستورية المؤهلة للمراجعة.
[4] رفع شعار الجمعية التأسيسية في المجلس الوطني الثاني للاتحاد الوطني للقوات الشعبية 4 أبريل 1960، في سياق الحملة ضد حكومة عبد الله ابراهيم التي انتهت بإقالتها في 26 ماي 1960، وإذا كان تمثل هذا المطلب عند الاتحاد كان هو انتخاب جمعية وطنية لوضع دستور للبلاد في إطار الملكية الدستورية فإن التصور السائد في تلك المرحلة أن الدستور الذي سيقرره المجلس التأسيسي سيحظى قبل ذلك بموافقة محمد الخامس. محمد عابد الجابري “مستقبل التجربة الديمقراطية في المغرب المجلس التأسيسي بين الفهم الوطني والتأويل المغرض” جريدة الاتحاد الاشتراكي، ركن “المغرب إلى أين؟” الحلقة 7، دجنبر 2000.
[5] عرف التاريخ الدستوري المغربي 4تعديلات منذ الدستور التأسيسي لسنة 1962، أولها ذو نفس سلطوي في 24 يوليوز 1970 والثلاث الأخرى ذات نفس برلماني في 10 مارس 1972 و4 شتنبر 1992، و13 شتنبر 1996، بالإضافة إلى تعديلين تقنيين في ماي 1980 و15 شتتنبر 1995.
[6] V. R. Leveau : « le fellah marocain serveteur du trone » presse se sciences politiques _ paris 1976 p: 29.
[7] عبد الرحيم العماري: نسق التواصل السياسي المعاصر بالمغرب، خطاب الكتلة الديمقراطية من الميثاق إلى التناوب خطاب الكتلة الديمقراطية 17 ماي 1992، 14 مارس 1998، مطبعة دار القرويين، الدار البيضاء، 2005، ص: 284.
[8] محمد منار باسك: دستور 2011 في المغرب: أي سياق؟ لأي مضمون؟ دراسة منشورة على موقع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، dohainstitute.org، اطلع عليه بتاريخ 04 يونيو 2024 الساعة : 21h14.
[9] عبد الكريم غلاب: التطور الدستوري والنيابي بالمغرب 1908-1992، الطبعة الثالثة، 1993، ص: 144 و145.
[10] صدر خلال هذه الفترة العهد الملكي في شكل خطاب وجهه محمد الخامس إلى الأمة بتاريخ 8 مايو 1958، وقد تضمن هذا العهد مجموعة من المبادئ والمقتضيات، لكنه كان مطبوعا بالاستفراد والتردد والمرحلية، مما لم يجعل له أي أثر في ترسيخ الديمقراطية.
[11] انظر الدرس الافتتاحي للموسم الجامعي 2003-2004 الذي ألقاه عبد الهادي بوطالب بجامعة الأخوين بمدينة إفران، بتاريخ 20 فبراير 2003. بعنوان: “دور الأحزاب السياسية المغربية في دفع مسيرة الديمقراطية”.
[12] عبد الكريم غلاب: المرجع السابق، ص: 244.
[13] المرجع السابق، ص: 241.
[14] تم انتخاب مجلس النواب على أساس دستور 1972 في 3 يوليو 1977، ولم يجتمع إلا في 14 أكتوبر 1977، لتتشكل بعد ذلك الحكومة.
[15] يمكن أن نذكر في هذا السياق ما حدث لمنظمة العمل الديمقراطي الشعبي، فبعد انفرادها من بين أحزاب الكتلة الديمقراطية برفض دستور 1996، انشق عنها الحزب الاشتراكي الديمقراطي، الذي صوت بـ”نعم” على الدستور. وما حدث بمناسبة دستور 1992؛ حيث انفرد حزب التقدم والاشتراكية من بين أحزاب الكتلة الديمقراطية بالتصويت على الدستور بـ”نعم”..
[16] في دستور 1970 أصبح الفصل 3 ينص على أن “الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية والمجالس الجماعية والغرف المهنية تساهم في تنظيم المواطنين وتمثيلهم”، وكان دستور 1962 ينيط مهمة تنظيم المواطنين وتنظيمهم فقط بالأحزاب السياسية.