الوثيقة السياسية باعتبارها مثالا عمليا لمفهوم الشورى.. في التصور المنهاجي (2)

Cover Image for الوثيقة السياسية باعتبارها مثالا عمليا لمفهوم الشورى.. في التصور المنهاجي (2)
نشر بتاريخ

النظام الشوري

“لَيْسَتْ الشُّورَى لِبَاسًا نَلْبَسُهُ وَحِلْيَةً نَتَزيَّنُ بِهَا مِنْ خارِجٍ، وَفِي باطِنِ قُلوبِ الأَفْرادِ وَعُقولِهِمْ، وَفِي أَخْلاقِ المُجْتَمَعِ وَعَلاقاتِهِ، وَمِن مُخَلَّفاتِ اَلْمَاضِي وَأَدْرانِ الحاضِرِ نِتانَةٌ وَقَذارَةٌ. الشُّورَى طَهارَةٌ وَتَطَهَّرٌ بَيْنَ يَدَيْ العَمَلِ الصّالِحِ، كَمَا أَنَّ الفَوْضَى والْفِتْنَةَ والْحُكْمَ الجائِرَ نَجاسَةٌ” 1.

الشورى إذن نظام له مناخه النفسي والفكري والخلقي والاجتماعي الخاص به، والإنسان داخله له صفات وخصال يحددها له الله عز وجل في سورة الشورى حيث يقول عز وجل وَمَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ 2.

الشورى ليست مجرد آلية تساعدنا على تسيير وتدبير دواليب الدولة ومؤسساتها، لضمان العدل والمساواة، بل هي نظام متكامل يجمع بين ما هو نفسي إيماني، وما هو فكري علمي، وما هو سلوكي خلقي، وما هو اجتماعي تضامني.

إن سياق الشورى كما جاء في القرآن الكريم، وكما بسطه الله عز وجل لنا في سورة الشورى، يسير على منهاجه مؤمنون ومؤمنات وفق خصال عشر هي:

– إقامة الصلاة لأن إقامة الصلاة من إقامة الشورى، وإقامة الصلاة في وقتها وفي جماعة، مع الحضور القلبي والافتقار بين يدي الله، واستمطار رحمته، وعرض حاجاتنا عليه في كل يوم خمس مرات، مع استحضار يوم الوقوف بين يديه، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، هي الضامن لإقامة الشورى بما هي عدل ومساواة، بما هي حرص على قضاء حوائج الناس، وتهمم بأحوالهم ومعاناتهم، بما هي تواضع وافتقار وعدم التعصب للرأي، وإشراك الآخرين في التسيير والتدبير، وتجاوز الأنانية والحب المفرط للذات.

– اليقين في أن الحياة الدنيا رحلة موقوتة، بعدها موت، وبعد الموت حياة، لابد من الاستعداد لها بالعمل الصالح، ومن العمل الصالح الذي يقرب إلى الله، خدمة الناس وفضاء حوائجهم.

– اليقين التام في أن ما عند الله في الدار الآخرة خير وأبقى، وبالتالي الزهد في الدنيا وما في أيدي الناس، والتعلق القلبي بما عند الله من خير وفضل، بل التعلق بالله والله خير وأبقى سبحانه.

 – التوكل على الله حق التوكل، وعدم التأثر بما يعرفه الواقع من إكراهات وعوائق وصعوبات، مع سنة الأخذ بالأسباب وإتقانها، حيث الإعداد والاستعداد، والتخطيط والبناء، وأيضا الدعاء والإقبال على الله بكثرة الذكر، والقيام والصيام، والعكوف على كتاب الله قراءة وحفظا.

 – الطهارة مِنَ الذُّنوبِ والْآثامِ بِتَوْبَةٍ نَصوحٍ.

– التحلي بالرفق والطمأنينة، وعدم التأثر بعنف الحكم أو هيجان الجماهير، وعدم الانتصار للنفس أو التعصب للرأي.

– الاستجابة لله استجابة كاملة تبدأ بإقامة الصلاة والصيام والزكاة، وتمر بذكر الله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإحسان في معاملة الوالدين والناس أجمعين، وتنتهي بقضاء حوائج الناس ودفع الظلم والاستبداد عنهم.

– الاستعداد الدائم واليد الممدودة للجميع من أجل التواصل والتوافق على قواعد ومبادئ وقوانين، تساعد على بناء دولة الحق والعدل.

– الإنفاق والبذل وعدم الارتباط القلبي بالمال، وذلك من خلال الزكاة والصدقة والإحسان، وكذلك من خلال السعي وبذل الوسع لتحقيق العدل في قسمة الأرزاق.

– الوقوف في وجه الظالمين المستكبرين، والاصطفاف إلى جانب المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها.

هذه إذن خصال المؤمنين والمؤمنات داخل النظام الشوري، وهو توجيه رباني للمؤمنين يحدد لهم الخصال التي ينبغي التحلي بها والتربية عليها ،سواء على المستوى النفسي القلبي، أو المستوى الفكري العلمي، أو الخلقي السلوكي، أو الاجتماعي التضامني، والتي من شأنها أن تؤدي إلى بناء نظام شورى يحقق العدل والمساواة، والتقدم والتطور، كما يحقق التربية الإيمانية الإحسانية، حيث الإقبال على الله والشوق للقائه، وهو بالنسبة للمؤمنين سياق واع اختياري يستشعر خصوصية وتميز تاريخ المسلمين وواقعهم أيضا، وليس مساقا غير واع إكراهي، لا يستشعر خصوصية وتميز تاريخ المسلمين وواقعهم، ويحرص على استنساخ تجارب الآخرين في السياسة والاقتصاد، ومن ويلات هذا الاستنساخ والتقليد الأعمى، الفصل بين الدين والسياسة واعتبار الشورى مثلها مثل الديمقراطية، مجرد آليات وأدوات، قوانين ومؤسسات، هدفها إصلاح دنيا الناس لا علاقة لها بالصلاة واليوم الآخر.

والوثيقة السياسية في مقدمتها، ذكرت بخصائص هذا النظام الشوري وبشروطه وبأهدافه والغاية من ورائه، حيث أكدت على أن المشروع السياسي للجماعة يقوم على ثلاثة أسس هي: بناء الإنسان، تشييد مجتمع العمران الأخوي، وترسيخ القيم الإسلامية في تأسيس مفهوم المواطنة. وهي أسس تبين تميز تصور المنهاج النبوي لطبيعة التغيير المجتمعي المطلوب ومراحله وأدواته، وكذلك تذكر الوثيقة بأهداف التصور السياسي وخصائصه، وكل ذلك من أجل التواصل وتيسير التفاهم ومناقشة الوثيقة والحكم على مقترحاتها، من داخل المشروع المجتمعي للجماعة، وانطلاقا من التصور المنهاجي للتغيير السياسي والتربوي المنشود، واستحضارا لأهداف التصور السياسي وخصائصه عند الجماعة، وعدم محاكمة الوثيقة من خلال تصورات أخرى للتغيير، ووجهات نظر أخرى للدين والسياسة والاقتصاد، وإلا ستكون مناقشتنا لمقترحات الوثيقة مجرد أحكام جاهزة بعيدة عن التصور المنهاجي الذي يؤطرها، والمشروع المجتمعي الذي هي جزء منه.

أكدت الوثيقة في مقدمتها أن المرجعية النظرية للجماعة تنطلق من المنهاج النبوي بما هو آلة للعلم ومرشد للعمل، بقراءة متجددة لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتاب العالم والحكمة البشرية.

إن نظرية المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا تنطلق من كون تاريخ المسلمين يتطلب فهم مختلف وسائل التشخيص واقتراح الحلول والبدائل، ولا يمكن أن نفهم تاريخنا بنظريات وأفكار غيرنا، كما لا يمكن أن نغير واقعنا باستنساخ تجارب غيرنا في السياسة والاقتصاد، نعم نستفيد من التجارب الناجحة ونأخذ الحكمة البشرية في التدبير والتيسير، لكن بانسجام تام مع مبادئنا وخصوصيتنا.

إن الوثيقة السياسية للجماعة توضح أن هذا التلازم والترابط بين العدل والإحسان، وهذا الاستحضار الدائم للنموذج الخالد في الحكم الذي جسده الصحابة الكرام، وهذا الحرص الدائم على ضرورة توفير شروط النظام الشوري وخصائصه لا يعني الانغلاق التام عن العالم، والتقوقع الكلي على الذات وعدم الانفتاح على تجارب الآخرين، أو الرغبة في الرجوع بالناس إلى الماضي البعيد، بل عكس ذلك تماما الجماعة منفتحة على جميع التجارب، وتأخذ بالحكمة البشرية بغض النظر عن مصدرها، ودليل ذلك وبرهانه هو ما تقترحه الوثيقة السياسية  في المدخل السياسي من دولة مدنية تقوم أساسا على الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية، حيث القطيعة مع الاستبداد من خلال دستور ديمقراطي تكون فيه الكلمة الأولى للشعب، حيث ربط المسؤولية بالمحاسبة، والفصل بين السلط الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية واستقلالها، لكن دون انصهار تام وتماهٍ كلي مع فلسفة هذه الآليات والأدوات والخضوع لأيديولوجيتها.

خاتمة

الوثيقة السياسية التي أصدرتها الجماعة، كانت مثالا عمليا وتمرينا حقيقيا على مبادئ الشورى وآدابها، سواء على مستوى مراحل الإعداد والصياغة، وما رافقها من مجالس ولقاءات للتشاور والتداول، وتبادل الأفكار والاقتراحات، لساعات طوال في جو تملأه المحبة والأخوة، أو فيما اقترحته الوثيقة من إجراءات سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو المجتمعي، هدفها على المستوى القريب بناء دولة الحق والعدل والمساواة، وهدفا على المستوى البعيد بناء نظام شورى متوازن، يهتم بدنيا الناس وآخرتهم أيضا.

إن الوثيقة السياسية تميز بين طبيعة التغيير المجتمعي المطلوب، ومراحله وأدواته ووسائله، والذي هدفه بناء نظام شوري متوازن يجمع بين صلاح دنيا الناس وآخرتهم، وهو تغيير استراتيجي يتطلب سنوات من التربية والعمل المتواصل إن لم نقل أجيالا، وبين طبيعة التغيير السياسي المطلوب من أجل الانتقال إلى دولة المؤسسات حيث الفصل بين السلط وربط المسؤولية بالمحاسبة، وهو تغيير آني ومستعجل وضروي، وبداية لابد منه، من أجل الانطلاق في عملية بناء دولة الحق والعدل والمساواة.

إن النظام الديمقراطي اليوم عاجز عن حل  مشاكل الإنسانية، كما أن حقوق الإنسان التي تتغنى بها الدول الغربية، والتي تعتبرها مفتاح كل المشاكل والويلات التي تعيشها الدولة المتخلفة، أصبحت مجرد شعارات لا علاقة لها بواقع حياة الناس، حيث أن كل القوانين الدولية، والمؤسسات الأممية، وجمعيات المجتمع المدني، فشلت في الانتصار لقيم الحق والعدل والمساواة، لقيم الحق في الحياة (الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في غزة خير مثال) لأن المعيار هو القوة العسكرية والاقتصادية، المعيار هو الدنيا، وهذا سيدفع الإنسانية  لا محالة للبحث عن بديل لهذا النظام الديمقراطي الذي تحكمه قيم المنفعة والمصلحة، والربح وتراكم رأس المال، ومعيار الكيل بمكيالين، وما الحركة الاحتجاجية لطلبة اليوم في مختلف دول الغربية  إلا بداية لهذا التحول، ولن  يكون البديل إلا نظاما شوريا، حيث الدنيا مطية للآخرة، وحيث الدولة والمؤسسات وسيلة وأداة لتنزيل شريعة الله، وليست غاية يحكم فيها الإنسان  بأهوائه وغرائزه، حيث الإنسان له الحق في العدل والكرامة والمساواة بغض النظر عن عقيدته، وعاداته،  وقيمه، ونمط حياته ، وحيث الإنسان له الحق في معرفة خالقه، ومعرفة دوره ووظيفته في هذه الدنيا، حيث الإنسان له إيمان راسخ بالغيب، ويقين ثام في الآخرة، إنسان يعتبر سعيه لبناء دولة الحق والعدل والمساواة عبادة، بل ويعتبر النظام الشورى بشكل عام ما هو إلا وسيلة وأداة بها يتقرب إلى الله ويطمع في رضاه، إنسان قرة عينه وغاية مطلبه لذة النظر لوجهه الكريم سبحانه عز وجل.


[1] ياسين عبد السلام، الإحسان ج 2، ص 139.
[2] سورة الشورى، الآيات 37_39.