انطلقت الوثيقة السياسية من قراءة شمولية للواقع المغربي ومحيطه، ولعلها آثرت أن لا تثقل صفحاتها بتشخيصها لهذا المحيط، غير أن ما تضمنته من مواقف واقتراحات في مجال العلاقات يبرز هذه القراءة العميقة للعلاقات الدولية ولتفاعلاتها. خاصة إذا استحضرنا نظرتها وتقديرها لأهمية هذه العلاقات، حيث ورد فيها: “يتوقف نجاح الدول في العالم المعاصر، إلى حد بعيد، على قدرتها التفاعلية مع محيطها الإقليمي والدولي من خلال نسج علاقات مع الفاعلين الدوليين والإقليميين، سواء كانوا دولا أو اتحادات دولية أو منظمات، وذلك من خلال توافقات واتفاقات للتعاون تتأسس على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية”.
وبما أن موضوع التطبيع مرتبط بهذه العلاقات الخارجية، فيمكن رصده في الوثيقة من خلال الموقف من قرار التطبيع.
أولا: احتكار تدبير العلاقات الخارجية
لم يكن قرار التطبيع مع الكيان الصهيوني قرارا شعبيا، منبثقا عن مؤسسات الدولة، وإنما كان قرارا انفراديا، فرض على الشعب فرضا، وجيء بمن يوقع على ما تقرر.
في إطار التشخيص سجلت الوثيقة هذا الواقع بتأكيدها على “احتكار الملكية لتدبير العلاقات الخارجية والعمل الدبلوماسي واعتبار ذلك مجالا محفوظا، والتحكم في وزارة الخارجية، وعدم السماح لباقي الفاعلين السياسيين إلا القيام بأدوار ثانوية”.
ولهذا اقترحت الوثيقة في هذا الموضوع في المقترح 77، “جعل السياسة الخارجية والعمل الدبلوماسي مجالا وطنيا تشارك فيه مختلف القوى الوطنية، وإشراك الهيئات والشخصيات ذات الخبرة الدولية العالية والرصيد الدبلوماسي المعترف به، وتشجيع الدبلوماسية الموازية غير الرسمية في مختلف أشكالها.”
هذا المقترح ينضاف إلى ما ركزت عليه الوثيقة في شقها السياسي على مستوى التشخيص أو الاقتراح لمعالجة كل مظاهر الاستبداد التي تتناقض مع الديمقراطية وتتنافى مع الحكامة، واقترحت حلولا لتجاوزها، وأعطتها الأولوية والأهمية في مشروعها المقترح.
كما أكدت الوثيقة في مجال العلاقات الخارجية على الارتباط العضوي للمغرب بعمقه العربي والاسلامي، مما يجعل القضية الفلسطينية في صلب قضاياه. حيث أكدت الوثيقة على “تكريس الارتباط العضوي بالأمة العربية والإسلامية، وهو ما يقتضي العمل بمبدأ التعاون والتنسيق السياسي والثقافي والاقتصادي مع كل الشعوب والدول العربية والإسلامية، وذلك ببذل مزيد من الجهود لزيادة التعاون الثنائي مع هذه الدول، واعتماد دبلوماسية متعددة الاتجاهات تحقيقا للمصالح العليا المشتركة.”
ولأن موضوع الصهيونية والتطبيع يعكس الرؤية لهذه العلاقات الدولية وللقضايا المركزية فيها وعلى رأسها القضيه الفلسطينية، لم تغيب الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان الموقف من التطبيع بل كان حاضرا بقوة، ليس بحجم المساحة الذي احتلها ولكن من خلال أهمية العناوين التي أدرج تحتها.
فقد تطرقت الوثيقة السياسية للموقف من التطبيع في موضعين أساسيين: الأول تحت عنوان “دولة مستقلة ومنفتحة”، ضمن العنوان الكبير بناء دولة العدل والكرامة والحرية. والثاني تحت عنوان السياسة الدفاعية، ضمن عنوان كبير” بناء حكم المؤسسات”.
ثانيا: التطبيع يناقض استقلالية الدولة
إدراج الموقف من التطبيع في الوثيقة السياسية تحث عنوان “دولة مستقلة ومنفتحة”، فيه إشارة أن التطبيع يناقض استقلالية الدولة المغربية ويهدد حريتها واستقرارها ووحدتها.
لهذا جاء في المواقف والمقترحات “رفض كل أشكال التطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب”، وهي عبارة واضحة في معناها ومبناها، ويمكن أن نستحضر بعض مقتضياتها من خلال المفاهيم المدرجة فيها:
1- الرفض
جاء في لسان العرب: الرَّفض الترك، أما في تاج العروس فجاء بمعنى الكسر والطرد. فالرفض في اللغة له معاني متعددة من بينها الترك والكسر والطرد.
فرفض التطبيع بمعنى تركه وعدم القبول به، والعمل على كسره وطرده بإسقاط كل اتفاقياته التي حاصرت كل القطاعات الحكومية ومناهضة كل مظاهره التي اخترقت كل المجالات المجتمعية، وتجريم كل أشكاله قانونيا ودستوريا لحماية الوطن من التهديدات الصهيونية.
2-التعميم:
جاء الموقف من رفض التطبيع بصيغة جامعة، حيث استعملت الوثيقة عبارة “كل أشكال” لتؤكد على أن الرفض يشمل التطبيع بصفة عامة، ولتكون عبارة “كل أشكال” أشمل من جرد أشكال التطبيع على سبيل الحصر أو المثال، وعليه فالوثيقة ترفض التطبيع التربوي والثقافي والاقتصادي والأكاديمي والأمني والعسكري وغيره.
3- التطبيع:
استعملت الوثيقة عبارة “التطبيع”، على أساس أنها المفهوم الدارج والأكثر استعمالا في الحقل السياسي والإعلامي وغيره في وصف سياسة الكيان الصهيوني إزاء الدول العربية والإسلامية لفرض اعترافها به ومد جسور التعاون والاختراق لكل المجالات.
وإن كان التطبيع المغربي تجاوز مفهوم تطبيع العلاقات مع العدو الصهيوني، إلى مفهوم الحماية الذي يذكرنا بالحماية الفرنسية التي تحولت إلى استعمار، وإلى مفهوم التحالف الذي يرمي إلى تأسيس حلف عسكري على غرار حلف الناتو والذي تكون “إسرائيل” قائدته، والذي يوظف فيه جزء من الأمة لضرب الجزء الآخر بقيادة الصهاينة، وبمفهوم الولاء في الشرع والذي يعطي لهذه العلاقات أبعادا خطيرة على مستوى الدين، ويرتب عليها الشرع أحكاما فاصلة. وعليه فمفهوم التطبيع أصبح قاصرا عن وصف علاقة المخزن بالكيان الصهيوني، بل أصبح مغالطا. لكن إذا كانت الوثيقة ترفض التطبيع بكل أشكاله، فهي من باب أولى ترفض كل أشكال العلاقة مع الكيان والتي تتجاوز التطبيع في أبعاده المعهودة.
4-الكيان الصهيوني:
استعمال الوثيقة لمفهوم “الكيان الصهيوني” يساير ما اعتاد عليه العرب والمسلمون في وصف الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين، لينفي عنه الشرعية وصفة الدولة، وليعتبره مجرد كيان محتل، ويسمه بالصهيونية ليربط هذا الكيان بالحركة الوطنية الصهيونية التي أدت إلى تأسيس “إسرائيل”، وبالتالي طبعه بكل خصائصها وأهدافها، فهو كِيانٌ توسعيٌّ استعماري عنصري، امتداد للصهيونية العالمية القائمة في أمريكا، والذي يعتبر الكيان الصهيوني مقدمة وطليعة لجيشها، للحفاظ على مصالحها والتحكم في قلب الأمة.
5- الغاصب:
الغصب لغة: أخذ الشيء ظلما. يقال: غصب الشيء يغصبه غصبا واغتصبه فهو غاصب، وغصبه على الشيء بمعنى: قهره وغصبه منه.
إن وصف الوثيقة للكيان الصهيوني بالغاصب له دلالته الخاصة، ففيه تبرير لسبب رفض التطبيع معه، لأنه كيان ظالم اغتصب أرض فلسطين وفي مقدمتها القدس والأقصى، ظلما وقهرا لأهلها بتقتيلهم وتشريدهم، فلا يوجد في المواثيق الدولية ولا الشرائع السماوية ما يبيح الاعتراف بشرعية غاصب، ولا التعامل والتعاون معه، وهو الظالم والمجرم والإرهابي، فضلا عن التحالف معه وموالاته، لأن هذا الفعل يجعل من صاحبه شريكا له في الظلم والإجرام.
ووصفه بالغاصب فيه إشارة غير مباشرة ورد على من سوّق للتطبيع بالدفاع عن الوحدة الوطنية، لأن الاستقواء بغاصب لإثبات مغربية الصحراء، يسيء للقضية أكثر ما يحسن إليها، بحيث يفتح المجال لخصومه بوصفه بصفة من يستقوى به. وبإن وحدتنا الترابية لا يمكن تحقيقها على حساب الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، لأن ذلك يعتبر سقوطا قيميا وأخلاقيا يتنافى مع هوية وتاريخ الشعب المغربي الذي ظل وفيا للقدس والأقصى.
ثالثا: التطبيع العسكري تهديد للأمن القومي
لم تتطرق الوثيقة السياسية للاختراقات الصهيونية للعديد من القطاعات باستثناء قطاع الدفاع، لما لهذا القطاع من خطورة وحساسية، حيث ورد في تشخيصها للسياسات الدفاعية ما يلي: “التمادي في التطبيع العسكري مع الكيان الصهيوني وتوسيعه ليشمل الأسلحة والاستخبارات والتدريبات العسكرية والمنظومة المعلوماتية؛ مما يهدد الأمن القومي للمغرب ويشكل خطرا على استقراره وأمنه واستقرار وأمن المنطقة.”
هذا التشخيص للتطبيع العسكري له دلالات نستشفها من خلال ما يلي:
1- التمادي في التطبيع العسكري:
التمادي في التطبيع العسكري كان على مستويين: على مستوى الزمان وعلى مستوى المجال، فالمستوى الأول منذ توقيع اتفاقية الشؤم والمغرب يُمكّن للكيان الصهيوني اختراق المجال الأمني والعسكري، ليتم ترسيم ذلك بزيارة وزير الحرب لدى الكيان الصهيوني، بيني غانتس، إلى المغرب في الـ25 نوفمبر 2021، وإبرام اتفاقيات، وقد سبق هذه الاتفاقيات اتفاق الأمن المعلوماتي، في 17 يوليوز 2021 حيث وقعت أول اتفاقية تعاون في مجال الحرب الإلكترونية، بإقامة تعاون في “البحث والتطوير ومجالات عملياتية في السايبر”.
مع العلم أن العلاقة حسب بعض التقارير هي سابقة لاتفاق الخزي والعار، حيث كشف الباحث جوناثان هيمبل المختص في الصادرات العـسـكرية والأمنية الإسرائيلية في مقال له على صحيفة “هآرتس” أن الصادرات العـسـكرية الإسرائيلية للمغرب ظلت سرية في معظمها. مضيفا أن “إسرائيل” شحنت في السبعينيات دبابات إلى المغرب، ومن عام 2000 حتى عام 2020، قام مسؤولون من كلا البلدين بعدد من الزيارات السرية وغير السرية. كما يسّجل أنَّ “إسرائيل” باعت المغرب أنظمة عسكرية وأنظمة اتصالات عسكرية وأنظمة مراقبة عبر طرف ثالث. وذكر أن القوات الجوية المغربية اشترت في عام 2013 ثلاث طائرات بدون طيار من نوع هيرون من صنع شركة صناعات الطيران الإسرائيلية بتكلفة 50 مليون دولار، وحصل المغرب على هذه الطائرات عبر فرنسا.
والمستوى الثاني وهو التمادي المجالاتي الذي بلغ فيه التطبيع العسكري مداه، بأن شمل كل السياسات الدفاعية.
2-توسيع مجالات التطبيع العسكري:
فتوسيع مجال التطبيع العسكري ليشمل مجالات حساسة من الأسلحة إلى التدريب إلى المنظومة المعلوماتية والاستخباراتية، يعد سابقة خطيرة في التطبيع العربي، وخطوة غير محسوبة العواقب.
هذا التوسع أقرته التصريحات التي صاحبت زيارة وزير الحرب الصهيوني حول الاتفاق الموقع والتي جاء فيها: “سيقرر إطار العلاقات الأمنية بين الطرفين، بما في ذلك العلاقات بين الجيش الإسرائيلي والقوات المسلحة المغربية، حيث ستتضمن الاتفاقية المذكورة التفاهم على التنسيق بين الأسلحة، والاستخبارات، والمشتريات الأمنية، وتدريبات مشتركة”. كما أكد هذا التوسع الواقع سواء التداريب المشتركة التي نظمت، وصفقات الأسلحة التي أبرمت، والزيارات المتبادلة بين قيادات جيش الاحتلال المجرم والجيش المغربي. وقد شمل الاتفاق إحداث مصنع لصناعة الطائرة المسيرة عن بعد المعروفة باسم “كاميكاز” أو الانتحارية. كما أعلنت شركة تكنولوجيا الدفاع الإسرائيلية “إلبيرت سيستمز” عن توصلها لاتفاق يفتح لها الباب لإبرام عقد بناء مصنع للذخيرة بقيمة 135 مليون يرجح أنه مع المغرب، حسب تأكيد ممثل الكيان في المغرب.
والسؤال المركزي ما تداعيات توجيه هذا السلاح المصنع بالمغرب لأعداء الكيان الصهيوني وفي مقدمتهم المقاومة الفلسطينية وشعبها المحتضن لها والدول وشعوب الأمة الإسلامية الرافضين للاحتلال الصهيوني؟
3-تهديد الأمن القومي:
أ- الأمن القومي
فالوثيقة السياسية تعد التطبيع العسكري يهدد الأمن القومي للمغرب، سواء بتهديد أمنه الداخلي أو بتهديد أمن المنطقة. فالأمن القومي المغربي محدد بعوامل حدودية وجيوسياسية، كما هو مرتبط بالأمن القومي العربي وبالبعد الإسلامي والإفريقي، ولا يخفى عداوة الكيان الصهيوني للعرب والمسلمين، وأطماعه في إفريقيا. ونؤكد أنه لا يستقيم التطبيع العسكري مع الحفاظ على الأمن القومي المغربي.
ب- الاستقرار الداخلي
التهديد الأول مرتبط بأمن المغرب واستقراره، فإن التطبيع مع محتل له مشروع وأطماع توسعية واستعمارية وله سوابق في الغدر والخيانة والاغتصاب للأرض، والعمل على تفجير التناقضات الداخلية العرقية والإثنية للدول، أمر خطير وغير مقبول. فالوثيقة تعد استئمان الكيان الإرهابي على جيش البلد والسماح له باختراقه خطأ استراتيجي جسيم وتداعياته ستكون وخيمة.
ج- استقرار المنطقة
أما التهديد الثاني الذي أثارته الوثيقة يشمل أمن المنطقة واستقرارها، فالطبيعة الإجرامية للمحتل تدفعه لإشعال نار الفتنة والحروب بين دول المنطقة، حتى يتحقق مراده ببيع الأسلحة ووهم الدعم والحماية، وإضعاف وتقسيم دول المنطقة، وضرب بعضها ببعض، وتوظيف المغرب في تحالفات ومحاور عسكرية لا ناقة للمغرب ولا جمل فيها.
فالكيان الصهيوني يعمل بكل الوسائل لتعميق الهوة والشرخ بين البلدين الجارين المغرب والجزائر، لإشعال نار الحرب بينهما، لأنه سيكون المستفيد الأول، بفرض دوره الحمائي، وبيع أسلحته، وتحقيق الفوضى وعدم الاستقرار في غرب الأمة كما فعل في شرقها، مما يعيق نهضة دول المنطقة ونماءها.