بين ثقافة اللوم وثقافة العدل

Cover Image for بين ثقافة اللوم وثقافة العدل
نشر بتاريخ

في 6 مارس 1987 غرقت سفينة الركاب «هيرالد أوف فري إنتربرايز» بعد مغادرتها ببضع دقائق ميناء زيبروج البلجيكي متجهة إلى دوفر بإنجلنرا، وقد أودى هذا الحادث بحياة 193 شخصا كانوا على متنها، ليتبين لاحقا أن أبواب الشحن كانت تفتقد لضمانات إحكام الغلق. في هذا السياق كان أحد التقنيين دائما ينبه ربان السفينة إلى ضرورة تركيب أضواء إنذار تكشف ما إذا كانت الأبواب مغلقة بإحكام أم لا، الأمر الذي تجاهلته الإدارة الموبوءة بداء الإهمال، والمزهوة بمشروعية الإنجاز؛ إذ كيف يُتصور أن تلتفت الإدارة إلى مثل هذه التحذيرات والانتقادات أمام الرحلات الناجحة والأرباح المطردة. لكن بعد وقوع هذه الحادثة بدأ البحث عن الشخص أو الجهة المسؤولة عن هذه الكارثة الفاجعة، بعد فوات الأوان!

لقد علمتنا الأبحاث المتعلقة بالحوادث والكوارث الكبرى أن إلقاء اللوم على المذنب الظاهر لا يضمن عدم تكرار وقوع الكارثة. ومع ذلك  لا نزال في أغلب  الأحيان نركز على كبش الفداء، فوجود شخص يُلقَى عليه اللوم يعطي انطباعا بأن القضية عولجت وأغلقت، ما يريح الآخرين من اللوم، غير أنه يُعَتِّم في الوقت نفسه عل حقيقة أن سبب أو أسباب وقوع الكارثة يبقى في معظم الأحيان قائما وقابعا في الذهنية العامة التي تسير بها المؤسسة، والتي تُنْتِجُ نفس السلوكات بطريقة تلقائية ما دامت تفكر من داخل نفس الدائرة المغلقة ولا يهمها إلا الإنجاز والنتائج المحصلة دون مراعاة عواقب طرق وآليات الإنجاز التي قد تكون مليئة بالفجوات إما لأنها خفية أو لأننا نتعمد تجاهلها.

إن من مميزات ثقافة اللوم أنها تعمل على تضخيم الإنجازات وتقزيم الانتقادات، فهي تنظر إلى الحاضر ولا يهمها المستقبل، في حين تشجع ثقافة العدل أعضاء المؤسسة على التعبير عن الانتقادات والشكاوى والتحذيرات في ذروة النجاحات والإنجازات دون الخوف من التعرض للوم، أو من التحول إلى ضحايا أو نعتهم بأعداء النجاح. تستفيد ثقافات العدل إلى أقصى حد من «تعلم الحلقة الثنائية double -loop learning، حيث ترجع الإدارة المسؤولة عند صدور أي انتقاد أو تحذير إلى مسرح الفعل لتستكشف السياق الأوسع، والسياسات العامة، والافتراضات التي دفعت إلى الانتقاد أو التحذير في المقام الأول. في حين نجد أن «تعلم الحلقة الثنائية» هو نقيض «تعلم الحلقة المنفردة» single -loop learning، الذي يعد الأضيق نطاقا كونه عند الفشل يلقي اللوم على جهة بعينها، ولا يكترث إلى الانتقاد لحظة النجاح، ولا ينظر إلى ما هو أبعد من ذلك.

إن تحمل النقد لحظة الفشل أمر لا يعني دائما تقبله، بل قد يعكس سعي المنتقَد إلى امتصاص شدة اللحظة والرغبة في تجاوزها، ما يجعله يبدي اللوم على نفسه وقبوله من الآخرين. غير أن الصورة الحقيقية لتقبل النقد تكون إبان النجاحات والإنجازات الكبيرة التي يمكن لوحدها أن تدافع عن أصحابها ومع ذلك تجدهم يفتحون صدورهم الرحبة لاستقبال النقد رغبة منهم في تطوير الأداء والتقدم نحو الأعلى، وهم بذلك يركزون على ما خلفه النجاح من تداعيات على كل فرد من أفراد المؤسسة، والنظر فيما إذا كانت الوسائل والآليات التي استعملت غير مؤذية لأي طرف، ما يضمن مزيدا من الانخراط الفعال في المشاريع المستقبلية.

كثيرة هي النجاحات التي أنجزت على حساب هضم حقوق الآخرين، وغمط مجهوداتهم، وطمس أثرهم في تلك النجاحات؛ ويكفي اليوم أن تسأل الناس من بنى الأهرام، ليجيبوك بكل تلقائية “الفراعنة” مع أن الفراعنة لم يحملوا ذرة رمل أو قطرة ماء عند إنجاز هذا المشروع. إن هذا الاختزال يصيب الكثير من المشاريع التي يتم فيها تجاهل الفاعلين الحقيقيين والإشادة بأصحاب الألقاب والنياشين، تماما كما هو مشهد النصر الذي يتم فيه استعراض الجيش العائد من ساحة المعركة حيث المحروق جسده، والمبتور رجله، والمقطوعة يده… ليختتم الاستعراض العسكري بخطاب الرئيس الذي لم يشم دخان مدفع، وتُعلَّق نياشين الترقية العسكرية على كتف الجنرال الذي لم يسمع صوت رصاصة، ويجزى كل الجنود الموتى والمعطوبين نفسيا وجسديا بتشييد مربع إسمنتي عليه بعض البلاط وتسميته بالجندي المجهول توضع عليه أكاليل الورد، وهو ما تختزله كل الخطابات عندما تُنسَبُ أعمال ومشاريع لغير أصحابها، ويقال في جُمَلِها الأخيرة «والشكر موصول لكل جنود الخفاء كل باسمه مع الاحتفاظ بالألقاب». لقد سئمنا تشييد المنجزات بأموال الشعوب المستضعفة وتسميتها بأسماء الحكام، كما ضجرنا إنجاز المشاريع داخل المؤسسات ونسبها لغير أصحابها، كما مللنا ثقافة اللوم المُخْتَزِلَةُ للفشل في الأشخاص، إذ لا مناص من ثقافة العدل التي تفتح باب النصح والنقد على مصراعيه، وتحفظ حقوق الإنجاز من الضياع والغمط والسرقة الموصوفة. وهذه الثقافة لا سبيل إليها إلا بتغيير الذهنيات وتغيير المنظومة الحاضنة لها، غير ذلك، سيكون كمن ينتقد شركة المناديل ويطلب منها أن تصنع سيارة مرسديس؛ عبثا يطلب، وعبثا ينتقد!