جنون السلطوية.. كُلفة على الدولة ووقود للنضال

Cover Image for جنون السلطوية.. كُلفة على الدولة ووقود للنضال
نشر بتاريخ

كانت دائما أفعال العقلاء منزهة عن العبث وسلوك الأسوياء مضنة الحكمة، يصنعون، بفعلهم وسلوكهم، فضاء علائقيا تواصليا مليئا بالرزانة والكياسة والتعقل. وحين ينفلت العقل من الحكمة يجر صاحبه نحو الخفّة والنزق وحتى الجنون، فيصبح الخبط هو السيد والتخبط هو العنوان، لترتفع التكلفة الإنسانية والأخلاقية، وحتى السياسية حين ننتقل من الشخصيات الذاتية إلى المعنوية كالسلط والدول.

وفق هذه “الأبجدية” البسيطة التي تضبط السلوكات والعلاقات والحكم على الأشياء، يُنظر إلى الأطر التي تحكم الدول والقواعد الدستورية والقانونية التي تضبط سلوك مؤسساتها، والتي يلزمها، بعد أن تُعبّر عن ضمير الأمة وتعكس سيادتها، أن تتمثل قيم الخير التي تمتد من كرامة الإنسان إلى ديمقراطية الاختيار، وأن تستبعد كل مكنونات الشر من ظلم وتسلط وفساد واستبداد، وتلك أم الدواهي ورأس المآسي.

في أنظمة التسلط التي تعيش على إيقاع الفوضى، وإن بدت مُنظّمة، وتنهج منهج الضيعة، وإن ظهرت بمظهر المدينة المعاصرة، يحدُث أن تنفلت السلطوية من عقالها، وتنزع عنها رداء كل تجمّل مصطنع، وتنحدر إلى قاع تعاظم القوة المهلك، وتنزلق إلى بث مدامك الفتنة المجتمعية والتوتر الشعبي، وتدخل البلد مرغما إلى نفق لا بصيص ضوء في أفقه المعتم. لذلك، توافقت الأمم العاقلة وقواها الحية، على الحد من كل تسيّب يمكن أن تتسبب فيه السلطوية، خاصة حين تتلبس روحها الشريرة بجهاز الدولة ومؤسساتها.

في ضوء ذلك، لا يمكن لكل فاعل صادق ومواطن غيور على بلده المغرب إلا أن يضع يده على قلبه المعتصر، من هول ما يجري من مسلك سياسي رسمي، استسلمت فيه الدولة وأجهزتها لسلطوية مجنونة منفلتة، كأنها صبي دون الخامسة لم يتشكل لديه الوعي بأبعاد الأشياء ومستتبعات الأفعال، مما يحمّل الدولة والمجتمع كُلفة عالية وفاتورة تزيد من إرهاق الجميع.

لنتخذ يوما واحدا فقط، أمس الإثنين 22 يوليوز 2024، ولنتتبع فيه مظاهر السلطوية وسلوكها، ولن نطل على القاع المجتمعي الذي تتخذ فيه مظاهر الظلم أبعادا لا تكاد تحصى، ولا حتى في مختلف مناحي الفضاء العام بما فيها المستوى السياسي المركزي والمحلي، ولنكتف بالدخول إلى المحاكم و”قصر العدالة!”، ولن نتجول في كل المحاكم والقضايا، بل لننظر إلى نوع واحد فقط من القضايا وهي قضايا الاعتقال السياسي بسبب الرأي وبسبب الانتماء وبسبب الموقف وبسبب -ويا للغرابة يا سادة- دعم فلسطين ورفض الكيان الدموي “إسرائيل”!

– شابان محكومان بالحبس النافذ ما بين سنة ونصف وخمس سنوات، متابعان بسبب تدوينات ونشاط ميداني ينتصر لغزة الجريحة وفلسطين السليبة؛ أحدهما (مصطفى دكار) من أزمور المهمّشة والآخر (عبد الرحمن زنكاض) من مدينة المحمدية، تتجدد أطوار محاكمتهما الصورية.

– قيادي بارز وفاعل حقوقي وسياسي معروف بمواقفه وسلوكه (الدكتور بوبكر الونخاري)، يتابع منذ خمسة أشهر ويحكم عليه أمس بعشرة أشهر موقوفة التنفيذ في ملف أفرغ من الفراغ.

– ناشط شبابي ومدون (المهندس يوسف الحيرش)، محكوم بالحبس لمدة سنة ونصف بسبب تحقيقاته الإعلامية المناهضة للفساد والمناصرة أيضا لفلسطين والرافضة للتطبيع، ينتظر حكم الاستئناف…

أربعة ملفات كاملة في يوم واحد، لمواطنين مغاربة، ومن ورائهم عائلاتهم آباء وأمهات وزوجات وأبناء يعذبون. في يوم واحد فقط أمكن للسلطوية، التي تحرك القضاء كما تشاء، أن تقود كل هذا كأنها في سباق شرف قد يدخلها موسوعة “غينيتس”!

قبل الإثنين بيومين فقط، أمعنت السلطوية في انتقامها السوداوي وأصدرت على النقيب محمد زيان، الذي لم يشفع له لا سنه ولا مرضه ولا مسيرته، حكما قاسيا بخمس سنوات حبسا نافذا، ضدا على مواقفه ونضاله. ولن نمضي في تقصي باقي الملفات التي باتت معروفة، ولا الأسماء الأخرى التي أصبحت ثابتة في تقارير المنظمات الحقوقية الوطنية والدولية. فالأمر بات روتينا محرجا للسّجّان قبل غيره.

سؤال مُلحّ نوجهه إلى “عقلاء ما” في “مكان ما” من الدولة، إن وجدوا:

– ثم ماذا بعد؟ ها هو ذا فلان وعلان اعتقل وأدين، وها هو ذا الفاعل والناشط سجن وغُيّب. ثم ماذا بعد؟ هل خفت الصوت واختفى المعارضون ونضب معين الأحرار؟

سؤال على بساطته، يحتاج شيئا من التأمل في البحث عن جواب مقنع، ثم منهج فعّال يقدم مردودا.

بين يدي البحث عن الجواب، لننظر:

– قبل فترة رجل حرّ حمل العلم الفلسطيني ودخل ملعب الكرة في بركان، لتجره السلطوية -دون مراعاة لكل السياق الجاري في غزة- إلى المحاكمة والمتابعة، لترفع “الإلتراسات” الرايات والأعلام والكوفيات في الكثير من مدرجات الملاعب في مدن المغرب. ولتتوشّح قبل أيام شابة شجاعة الكوفية رمز القضية وتزيّن بها صعودها إلى منصة التخرّج، معتزة رغم محاولات الثني، ليكشف الرد الشعبي الهائل ماذا تعني فلسطين في وجدان المغاربة.

– اليوم يتم تغييب شباب بسبب تدوينات رافضة للتطبيع منددة بهذا السقوط الأخلاقي والسياسي الرسمي. هل انقطع التدوين؟ جولة في منصات التواصل الاجتماعي، ستجد شبابا في مقتبل العمر ونشطاء من كل طيف يعبرون ويدونون ويكتبون وينشرون، لم ترهبهم التخويفات والتهديدات، وما أثنتهم السجون التي كانت دائما فما كانت رادعا.

– لاحظ الموقف الرسمي من العدوان على غزة، وتتبع انعكاساته في الإعلام ومختلف مؤسسات التوعية والتثقيف، ولاحظ استمرار مسار التطبيع حتى بلغ تعاونا عسكريا في عز الحرب الهمجية، هل أثر ذلك على الموقف الشعبي؟ هل نسي المغاربة العدوان؟ هل انزاحوا عن موقفهم التاريخي الراسخ المعروف؟ هل أوقفوا الدعم؟

ثمة شيء عميق يجب أن ينظر إليه المعني بالبحث في السؤال أعلاه، شيء غير منظور؛ فوق السياسة وصراعاتها، وبعيد عن حسابات الهيمنة والإخضاع، شيء منغرس في كوامن المجتمعات ودواخل الإنسان، شيء من الفطرة السوية التي فطر الله الناس عليها، وهي جزء من ماهية الإنسان وتركيبته، لا فكاك له منها إلا أن يتخلى عن طبيعته الآدمية وجوهره الإنساني. هذا الشيء/الفطرة/إنسانية الإنسان، محرك عظيم في حركة الإنسان واختياراته ومواقفه، و”دينامو” غير مرئي في فعل المجتمعات وتقلبات الأمم، وهو بطبعه، مادام الخالق سبحانه هو من ركبه فينا، يدفعنا دفعا إلى الانحياز إلى العدل ورفض الظلم، وابتغاء الحرية ومجّ العبودية، وإرادة الكرامة والنفور من المهانة.

دعونا نقول إنه “براديغم” غاية في التأثير في معادلة السياسة، كما في تركيبة الاجتماع الإنساني وديناميته واتجاهه، ومادام صانع القرار لا ينظر إلى هذا العمق ولا يعطيه ما يستحق من نظر وتأمل، ومن ثم الاستجابة لمتطلباته “العادلة”، فإنه سيواصل الإخفاق المرة تلو المرة، ولن يحقق له الظلم مهما كان سافرا وقاسيا، وكيفما كانت صيغه المتلوّنة وتدبيجاته الخادعة، الخضوع والهيمنة. فالفطرة المنحازة للحق والعدل ستظل تطارده وتطارد أفعاله السلطوية، وذلك ديدن التدافع، إذ مهما تغول الباطل وانتفش يستمر صوت الأحرار صدّاحا.

على الدولة إذا ما أرادت أن تكون دولة مجتمع، أن تستدرك على نفسها وتتدارك قبل الفوت، وتعلم أن السلطوية المجنونة لا تستطيع وقف زحف الربيع ولن تتمكن من إلغاء الفطرة السوية من المعادلة، لذلك كان الصوت الحر دائما ولم ينقطع، وكذلك يكون ولن ينقطع. وعلى الحاكمين أن يعلموا أيضا أن السلطوية لا تقوم سوى برفع فاتورة التكلفة السياسية على الدولة، أمام المجتمع كما أمام العالم.