رحلة انعتاق

Cover Image for رحلة انعتاق
نشر بتاريخ

جلست رجاء متربعة في مجلس العلم الذي تترأسه، والذي لطالما آوى المئات من طلبتها من الرجال والنساء، تتفكر في الماضي والحال والمآل الذي ترجو أن يكون مشرقا بقدر البداية المحرقة، تتذكر حرقة المسير وعقباته الكؤود، ونتوءاته التي أوقفت خطوات الكثيرات من بنات جنسها عن الإبداع والمشاركة في مجالات حيوية في حياة الأمة. أوقفت عقل المرأة عن العطاء، ويدها عن الإسهام في بناء الأوطان بصدق ووفاء.

فكرت مليا وهي تتأمل طلبتها الذين أخذوا عنها العلوم في أبوابها المتفرقة؛ في علوم القرآن والأكوان؛ فهي المبدعة في علوم الحساب والطب والتاريخ والفقه والحديث والفلك والمواقيت… وأياديها بيضاء على الإنسان من خلال تخصص الطب المعالج لأسقام الأبدان، فضلا عن طب القلوب الذي برعت فيه باعتبار غوصها في علوم القوم بما تحمله من أشواق وأذواق، حريصة على الجمع بينهما كانت، لأن ليست العناية بالأبدان أفضل من العناية بالقلوب على حد قول سلفها حجة الإسلام ونابغة الأعلام أبي حامد الغزالي الذي كان يرى أن مرض القلوب “مرض يُفوِّت حياة الأبد، وأين منه المرض الذي لا يفوت إلا حياة الجسد، ومهما اشتدت عناية الأطباء بضبط قوانين العلاج للأبدان وليس في مرضها إلا فَوْت الحياة الفانية، فالعناية بضبط قوانين العلاج لأمراض القلوب وفي مرضها فوت حياة باقية أولى، وهذا النوع من الطب واجب تعلمه على كل ذي لب، إذ لا يخلو قلب من القلوب عن أسقام، لو أهملت تراكمت وترادفت العلل وتظاهرت، فيحتاج العبد إلى تأنق في معرفة علمها وأسبابها، ثم إلى تشمير في علاجها وإصلاحها، فمعالجتها هو المراد بقوله تعالى “قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا” 1، وإهمالها هو المراد بقوله: “وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا 23.

قادها تفكيرها القاصد إلى النهوض ضد أعراف بائسة وتقاليد بالية منافية لروح الشرع الحنيف، خاصة بعدما عانته من تضييق في طريق طلبها للعلم الذي هو الآخر قصة كبيرة، عقبات كانت من العديد من معاصريها الذين ضيقوا على المرأة مجالات الطلب إلا من أسعفهن الحظ في التميز.

 قدّرت أن اقتحام تلك العقبات فرض عيني لا يُعذر أحد بتركه وقد عطّل شطرُ الأمة شطرَها، وهل لأمة أن تطير بجناح واحد، إذًا لأصابها السقوط والبوار في أي حين، ثم لا بد أن تُعلم النساء أن ليس ما يعانينه من فرط الغيرة الذكورية أو سوء التقدير للمصالح المعتبرة شرعا من الدين، حتى أصبحت العفة الوقائية المزعومة لحفظ النساء قاعدة في واقع الناس يستعاض بها عن السنة المشرفة التي كانت تشرك النساء في مواطن القرار، ومجالس الطلب، والمشاركة اليومية في حمل الهم وإمضاء العزم والانخراط في البناء وجهود التعبئة العامة.

كأنا بحادثة ابن الفاروق عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مع ابنه تصير لازمة هذه الأمة وعنوانها الأبرز: “عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا تمنعوا إماء الله أن يصلين في المسجد” فقال ابن له: إنا لنمنعهن، فقال: فغضب غضبا شديدا، وقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: إنا لنمنعهن؟” 4.

توجيه قاصد بسط به تصورا بينا صافيا تعلمه في رحلة تتلمذه عند أعتاب منبر النبوة، كيف تمنع النساء من شهود جماعة المسلمين وجُمعهن ومجالس العلم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان مكانا لتعلم خيري الدنيا والآخرة؟!

حالفها الحظ أن كانت بيئتها علمية بامتياز، فأبوها عالم نحرير ضرب بطون الإبل طلبا للعلم الشريف، وأمها ابنة فقيه وفلكي شهير تخصصت في الطب والتمريض وكانت لها جهود مشكورة في علم الجرح والتعديل وأحوال الرجال.

في هذه البيئة درجت على محبة العلم والعلماء وتقديرهم، وفي هذه البيئة العلمية طلبت العلم على يد أبويها الذين بذلا قصارى الجهد في تعليمها أصول العلوم وفروعه، ثم أدباها على يد بعض العلماء الذين كانوا يصلونهم بين الفينة والأخرى في بلاد المغرب الأقصى التي نشطت فيها الحركة العلمية في زمن المرينيين، حتى كان في سبتة لوحدها سبعة أطباء فيهم امرأة، ناهيك عن باقي الحواضر الكبرى مثل فاس ومراكش.

قسمة ضيزى نعم، لكنها تعبير عن الحضور، حضور بارز للرجال وكأن أرحام النساء قد عقمت عن ولادة النوابغ من جنسهن، أو لعلها فرصة تتاح هنا فتُغنم، ولا تتاح هناك فتَحرم.

تذكرَت كيف نشطت في بيئتها العناية بالكثير من أبواب العلوم الشرعية والكونية فضلا عن فن العمارة والنقش التي لا شك أن معالمها ستخلدها الأجيال اللاحقة منها المدرسة البوعنانية ومدرسة العطارين ومدرسة الصفارين بفاس المحروسة ومدرسة الجديدة بمكناسة الزيتون… وغيرها كثير.

وإن نشطت الحركة العلمية إلا أن حظ النساء كان أقل من حظ إخوتهن الذين اعتنى الكتاب والمؤرخون بالحديث عنهم وتسجيل إنجازاتهم في بطون الكتب؛ ذكر خجول لبنات جنسها في هذا التأريخ المخل، وحتى وإن ذكرن فأحيانا كثيرة بألقابهن أو نسبة إلى آبائهن أو أزواجهن أو إخوتهن، وكأن القلم لا يقوى على تخليدهن في صفحات الذهب التي ستتداولها الأجيال اللاحقة بأسمائهن الكاملة.

أشهرهن من صالحات هذه القرون، العالمتان الشرعيتان فاطمة وأم هانئ ابنتا العالم محمد بن موسى العبدوسي، والفقيهة أم البنين جدة الشيخ زروق، والأديبة الشاعرة سارة الحلبية والعالمة صفية العزفية.  

خمنت أنه على الرغم من التطور الظاهر في عصرها لوضعية المرأة إلا أن طلبها للعلم كان رهين ظروف اجتماعية تضيق عليها وترى أن تعليم الجواري مفسدة لهن وبخاصة إذا كان مع الغلمان، مما حذا بعدد من أسلافها إلى تدريس النساء من أسرهم العلم في بيوتهم وبعد استكمال مهمة تعليم الرجال، من باب الخضوع للعرف العام والقوانين المنظمة للمجال، ومنهم أبوها والعالم عيسى بن مسكين 5.

فمن لباقي النساء اللواتي لم تسعفهن بيئاتهن على الطلب إذا استثنينا “دار الفقيهة” التي كانت تقصدها بعض بنات جنسها للتعلم ومنهن “سيدة بنت عبد الغني العبدرلي” 6 التي كانت تعلم البنات في مدينة فاس، ما سمح لهن بالتعلم.

بالعلم تعلو الهمم ويحصل التغيير في واقع الناس وفي أنماط التفكير، وهذا ما دفعها بعد أن استجمعت منه حظا ليس بالهين إلى النهوض من أجل تحقيق الفاعلية المطلوبة، وترجمة علمها الذي أفنت عمرا في طلبه إلى فعل سيترك بصماته واضحة في حياتها وواقع مجتمعها وأمتها.

كان أول ما قامت به ضمن مسارها الطويل أن ربت أولادها ذكورا وإناثا على الخلال الحميدة والخصال المجيدة وحسن الطلب والتهمم بأحوال الأمة، وانتدبت نفسها لتعليم الناس الخير، فما المانع الشرعي الذي يحول دون تعليم الناس بجنسيهم، ما دام في السيدة عائشة، رضي الله عنها معلمة الأمة بامتياز، المثال؛ نقلت للأمة العلم الشريف، وما استعصت على الأصحاب مسألة إلا ووجدوا فقهها عند أمهم أم المؤمنين رضي الله عنها، فبرعت في علوم عصرها كُلا، فكانت الفقيهة والشاعرة والخطيبة والطبيبة والحاملة لعلم النبوة الكريم…

عادت رجاء تصوب نظرها إلى مجلس العلم الذي تعقده كل يوم، وهي تستشعر أن حيتان البحر تستغفر لها ولطلبتها، وأن ملائكة الرحمن تفرش لهم أجنحتها رضا بما يصنعون.

عادت وقلبها يطرب فرحا لرؤية نتاج اجتهادها؛ أفواج المتعلمين الذين تخرجوا على يديها، والذين تفرقوا في البلاد ينفعون العباد بما معهم من علم موصول بالله، غير منفصل عن معرفته، وكلها رجاء أن يفتح الكريم الوهاب مغالق القلوب والأفهام من أجل أن تستمر هذه الحركة العلمية المباركة في صفوف أبناء الأمة رجالا ونساء، صغارا وكبارا، حتى يبلغوا بها المنى ويحققوا المرام، وما يدريك قد ينفذوا بسلطان العلم أقطار السماوات والأرض في اللاحق من العهود والأزمان.

حمدت الله تعالى على نعمة التوفيق، وقررت أن تصون دائما الثغر الذي تقف عليه بقوة حتى لا تؤتى أمتها من قبلها، ودخلت بيتها لتؤدي بإتقان وظيفتها الأصلية في صناعة جيل التغيير، والعناية بلبنة المجتمع الصالح، منطلق البعوث القوية وملاذ النفوس الزكية لئلا تتحول بحسن توفيق الله تعالى إلى مرفإ للسفن المنكسرة.


[1] سورة الشمس، الآية 9.
[2] سورة الشمس، الآية 10.
[3] أبو حامد الغزالي الطوسي (ت 505)، إحياء علوم الدين، دار المعرفة بيروت، 3/ 49.
[4] ابن ماجة، السنن، افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والتغليظ على من عارضه، رقم 16.
[5] ت 295هـ/ 907م، يروي أنه إذا أصبح قرأ حزبه من القرآن وعلم الطلبة إلى العصر ثم يجلس بعد العصر لتعليم بنته وبنات أخيه القرآن والعلم، كما ورد معناه عند القاضي عياض، ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الرباط 1970م، 4/349.
[6] ت 647هـ /1249م، ينظر شهاب الدين ابن القاضي، جذوة الاقتباس فيمن حل من الأعلام مدينة فاس، 2/443.