سنة الله في التابع والمتبوع

Cover Image for سنة الله في التابع والمتبوع
نشر بتاريخ

يسّر الله لي أن أحضر النصيحة آخر هذا الأسبوع المنصرم، والتي كانت تحت شعار “الصحبة محبة واتباع”. فأحببتُ بما متّعنا وأفادنا به الإخوة المؤطرون من خير عظيم جزاهم الله خيرا، أن يصل بعضه إلى العامة إن شاء الله تعالى. فاخترت من ذلك الخير محور مدارسة الإحسان الذي كان من عرض الأستاذ عبد العزيز حقي بارك الله فيه.

نستفتح بما استفتح به الإمام رحمه الله هذه الفقرة من الدعاء:

“بسم الله الرحمن الرحيم ربي زدني علما اللهم اغفر لي ما أخطأت، وما تعمدت، وما أسررت، وما أعلنت، وما جهِلت، وما تعمّدت”.
في بداية هذه الفقرة يتحدث الإمام رحمه الله تعالى عن الدلالة، ويقسمها إلى نوعين:

 الدلالة القرآنية: التي تتجلى في النداء الإلهي بــ يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم (الصف:10).

والدلالة النبوية: التي تتجلى في النموذج المحمدي: “ألا أدلكم على شيء إن فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم”.

ثم بعد ذلك يقف عند الدلالة النبوية ويذكر لها وظائف وأركانا. فذكر من وظائفها: الشهادة بين الناس والحضور في الميدان والمناسبات، التعليم والهداية، الرفق والرحمة. وذكر رحمه الله من أركانها ركنا مهما هو التبليغ باللسان. ثم عقّب عليه فقال بأن هذا الركنَ مُهم جدا لكن هناك ما هو أهم منه هو المعايشة والسياسة وخفض الجناح والقيادة التي تدفع بالآخر إلى اتباع وإيمان.

هذا الاتباع ماذا نتج عنه؟ نتج عنه محبةُ الشخص الكريم صلى الله عليه وسلم، وهذه المحبة للنبي صلى الله عليه وسلم ترفع إلى محبة الله تعالى. ومحبة الله تعالى الجامعة بين التقرب بالفرض والنفل واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم توجب عبده أن يتبوأ مراتب الاصطفاء والفلاح.

ومن الأحاديث العظيمة التي تثبت هذا الاصطفاء والفلاح، حديث رواه ابن حبان في صحيحه، وروى الإمام أحمد وأبو يعلى والحاكم حديثا بمعناه وصححه. نكتفي هنا برواية أبي داود للحديث، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياءُ والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله”. قالوا: يا رسول الله! تُخبرُنا من هم؟ قال: “هم قوم تحَابوا برُوح الله على غير أرْحام بينهم، ولا أموال يَتعاطونها. فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس”. وقرأ هذه الآية: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (يونس:62).

يُعلق الإمام رحمه الله على الحديث فيقول: “توقّف بعض العلماء في معنى هذا الحديث، لأنهم تعاظموا أن يكون الأنبياء يوم القيامة يغبطون من ليسوا أنبياء ولا شهداء بمكانتهم من الله. ولا مزاحمة في الأمر، وما ينبغي للولاية أن تزاحم النبوة. ينصرف الأنبياء إلى مواطن الشفاعة في أممهم يوم العرض، والشفاعة تشريف زائد، بينما يبقى الأولياء على منابر النور بالقرب الإلهي. فهي لحظة وموقف. ولا مزاحمة” 1.

تأسست مسيرة “الاتباع” هذه على أمر إلهي في كتابه العزيز: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم (آل عمران:31). وأخبر بمراحل هذه المسيرة خبر إلهي في الحديث القدسي: [ما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه].

هل انقطعت مسيرة “الاتباع”؟ بل هي متواصلة، لم تنقطع، حافظ على شروطها الحُبّية بين العباد والله تعالى أمور ثلاثة:

أولا: الحب في الله تعالى. ثانيا: الصحبة في الله تعالى. وثالثا: وجود أولياء الله تعالى.

ثم الإمام رحمه الله يذكر لنا كيف ابتدأت المسيرة؟ وكيف استمرت؟ فيقول بأنه في أول الأمر ابتدأت المسيرة بالنبوة (حضور نبوي أضاء له كل شيء)، ثم بعد غيابٍ ذُهلت له القلوب، حافظت على استمرارها الصدّيقية بنفس الوظائف التي كانت تؤديها النبوة: الحضور والشهادة والهداية والدلالة. نعم لعب فيها التبليغ العلمي اللساني العقلي دورا مهما، لكن الوراثة القلبية والتحاب في الله تعالى كان لهما دور موازٍ أكبر لا ينفك عن الدور الأول.

فبقيت سنة الله في التابع والمتبوع وستظل إلى يوم القيامة. ويستشهد الإمام رحمه الله على هذا المدد القلبي المتسلسل الفَتحي الحِبّي من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي رحمهم الله عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يأتي على الناس زمان يغزو فيه فِئَامٌ من الناس (جماعات) فيقولون: هل فيكم من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم! فيُفتح لهم. ثم يأتي على الناس زمان، فيغزو فِئام من الناس فيقال: هل فيكم من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون نعم! فيُفتح لهم. ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من صاحب من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون نعم! فيُفتح لهم”.

فإذاً هي بركة متسلسلة وفلاح ونصر. هذه السلسلة النورانية من التابعين عبر تاريخ الإيمان لها ميزة خاصة قد لا يفهمها الكثير من الناس، بل قد لا تتسع لها حويصلتهم العقلية. وهي العلاقة القلبية بين التابع والمتبوع. فإنه كما للجسم حواس ظاهرية، للقلب حواس باطنية. ومنها: حاسة الشم. فإن أرواح المؤمنين تشمُّ نسيمَ الحبّ والقرب من عِشْرَة وصحبة أصحاب القلوب النيرة الخيرة، وتحوم حولها، وتقتبس منها نوراً ومحبة ورَوْحاً. روى الإمام مالك في الموطأ بسند صحيح عن أبي إدريس الخولاني قال: “دخلت مسجد دمشق، فإذا فتى براقُ الثَّنايا، والناس حوله. فإذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه، وصدَروا عن رأيه. فسألت عنه، فقالوا: هذا معاذ بن جبل. فلما كان الغد هَجَّرْتُ إليه (ذهبت إليه في أول وقت صلاة الظهر)، فوجدته قد سبقني في التهجير، ووجدته يصلي. فانتظرته حتى قضى صلاته، ثم جئته من قِبَل وجهه، فسلمت عليه، ثم قلت والله إني لأحبك في الله! فقال: آللّهِ! فقلت آللّه! فقال: آللّه! فقلت آللّه! فأخذ بحُبْوة ردائي، فَجَبذَني إليه وقال: أبْشِرْ! فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “قال الله تبارك وتعالى: وجبت محبتي للمتحابين في، والمتجالسين في، والمتزاورين في، والمتباذلين في”.

إنها سنة إلهية ماضية إلى يوم القيامة أن تكون سلسلة الولاية “تابع ومتبوع”. 

بعد هذا التأصيل لـ “سنة الله في التابع والمتبوع” عاد الإمام رحمه الله ليؤكد أمرا مُهما كان في عهد الصحابة وعاشوه في سلوكهم، ولم يكن في عهد السادة الصوفية من بعدهم، وذلك الأمر هو الجهاد. فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم في الجهاد (جهاد الذلة على المؤمنين والشدة على الكافرين) والإنابة لله رب العالمين. والمقصود بالإنابة: مجاهدتهم لأنفسهم. فإن الجهاد والمجاهدة عندهم لا ينفك الواحد منهما عن الآخر. بينما مشايخ الصوفية أولياء الله تعالى من بعدهم انقطعوا عن الجهاد (ويستدرك بقوله: جلّهم لا كلّهم) واكتفوا بالصبر والمجاهدة فقط في الزوايا.

 الآن في عصرنا ما المطلوب منا؟

المطلوب منا أن نستجمع ما تفرق بعد زمان الصحابة رضي الله عنهم. وذلك من خلال أمرين عظيمين:

أولهما: الاجتهاد: ويكون على مستوى الوعي والفكر لتصحيح المفاهيم التي غيرتها الفتنة، وذلك بأن نجتهد من إزاء القرآن ومن مشارف الصحبة (النسب القلبي)، ويبقى ما ورثناه من علماء الدين الأولين للاستئناس فقط وليس عبئا ثقيلا.

وثانيهما: الجهاد: ويكون على مستوى الواقع العملي، وذلك بإعادة صياغة الشخصية الغثائية حتى تُصبح الشخصية الجهادية الصحابية “المنهاجية”.

ويختم الإمام رحمه الله بأبيات من شعره، فيقول رحمه الله تعالى:

جَانِبْ رِفاقَ الخَنَا لا تَغتَرْ بهمُ

وَاصْحَب خَليلَ التُّقى فالطَّبع يُسْتَرَقُ

واسْلكْ سَبيلَ الأُلَى زَكَّوْا نفُوسَهم

وفي الجِهاد بعهد اللَّه قد صدقوا

بادرْ لجمْعِهمُ واقْصد لِقصدِهمُ

واسْمعْ لنُصحهمُ، ما عنْدَهُم مَلَقُ
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه من قبله ومن بعده

والحمد لله رب العالمين


[1] عبد السلام ياسين، الإحسان ج1، ص:196.