عبادة المراغمة

Cover Image for عبادة المراغمة
نشر بتاريخ

الصلاة عماد الدين، وهي الركن الأعظم والشعيرة الكبرى، وهي أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة؛ فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله. هي معراج المومنين، وواحة المقربين، وعنوان الطائعين، وطريق الخاشعين… لذا وجب أن نؤديها كما أمرنا الله عز وجل، وعلمنا الحبيب عليه الصلاة والسلام وهو القائل: “صلوا كما رأيتموني أصلي” (رواه البخاري).

فعلى المؤمن أن يجتهد في ذلك ما أمكن لتصح صلاته وتكتمل عبادته، فإن بذل كل الوسع ومع ذلك أخطأ ونسي؛ فلنا في الحبيب صلوات ربي وسلامه عليه القدوة والأسوة الحسنة، فقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه سها ونسي في صلاته، أو بعبارة أدق نُسِّي لكي يشرع لنا سجود السهو، تلك العبادة التي نطيع بها الرحمن ونقتدي فيها بالعدنان ونذل الشيطان ونجبر الصلاة ونعوض الخطأ…

وسجود السهو معناه في الشرع: سجدتان خفيفتان يسجدهما المصلي في آخر صلاته لتعويض الخلل أو الخطأ الذي وقع في صلاته سهوا لا عمدا..

وإن غصنا في موضوع سجود السهو فإننا نجد في حديث للحبيب صلى الله عليه وسلم عبارة: “ترغيما للشيطان”، حيث يقول صلوات ربي وسلامه عليه: “إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثا أو أربعا، فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسا شفعن له صلاته، وإن كان صلى تماما كانتا ترغيما للشيطان” (رواه مسلم). ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يسمي سجدتي السهو بـ”المرغمتين”.

وبالبحث في تأصيل مفهوم المراغمة نجد كلاما رائعا لابن القيم رحمه الله في كتاب مدارج السالكين، يتحدث فيه عما سماه: “العبودية الغائبة والشعيرة الضائعة”، وهي عبادة المراغمة؛ أي: إرغام وإذلال أعداء الله وأعداء الدين وعلى رأسهم إبليس اللعين. وهي نوع من أنواع المجاهدة، والمجاهدة وسيلة من وسائل السلوك إلى الله عز وجل.

يقول ابن القيم رحمه الله: “عبودية المراغمة لا ينتبه لها إلا أصحاب البصائر التامة. ولا شيء أحب إلى الله من مراغمة وليه لعدوه وإغاظته له. ومن تعبد إلى الله بها فقد أخذ من الصديقية بسهم وافر… وهذا باب من العبودية لا يعرفه إلا القليل من الناس. ومن ذاق طعمه ولذته بكى على أيامه الأول…”.

وللمصطلح تأصيل في كتاب الله عز وجل حيث يقول سبحانه: وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً (سورة النساء، من الآية 100).

 أي إن المسلم بهجرته يرغم ويغيظ أعداء الله من المشركين من جهة، ويجد سعة في الرزق من جهة أخرى..

ويقول المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه: “بعثت مرغمة..” أي هوانا وذلا للمشركين..

وإذا كان ابن القيم قد سماها عبادة المراغمة، فغيره يسميها عبادة المغايظة..

ولمصطلح المغايظة تأصيل أيضا في كتاب الله عز وجل، حيث يقول سبحانه: وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ (سورة التوبة، من الآية 120).

وفي الآية جعل الله هذه المغايظة عملا صالحا..

ويقول سبحانه أيضا في آية أخرى: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ (سورة الفتح، من الآية 29).

بناء على ما سبق فعلى المؤمن، وهو يسجد سجود السهو أو أي سجود آخر، أن يستحضر أنه يقوم بعبادة جليلة يرغم ويغيظ بها إبليس لعنه الله، ويجعله يولول ويبكي ويصيح: “يا وَيْلي أُمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار” 1.

والمراغمة لا تكون فقط مع إبليس اللعين، بل مع كل أعداء الدين. وهي تتخذ صورا كثيرة في عصرنا الحالي، حيث الصراع مستمر بين الحق والباطل، وحيث أصبح الإسلام يحارب جهارا نهارا، والمسلمون يحاصَرون ويشوَّهون ويشيطنون. لذلك علينا أن نجدد النية ونعظمها ونغيظ الأعداء بتمسكنا بديننا، ودفاعنا عن هويتنا ومقدساتنا، وثباتنا على الحق في وجه الظلم، وفضح الاستبداد، والحفاظ على الثوابت، وإحياء سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم والاعتزاز بها. والله ولي التوفيق.


[1] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا قَرَأ ابنُ آدم السجدةَ فسجد اعْتَزَل الشيطانُ يبكي، يقول: يا وَيْلَه  -وفي روايةٍ: يا وَيْلي – أُمِر ابنُ آدمَ بالسجودِ فسجدَ فله الجنة، وأُمِرتُ بالسجود فأبَيْتُ فَلِيَ النارُ” رواه مسلم.