في الحاجة إلى التمييز بين “الدولة” و”نظام الحكم” ثم “الدولة العميقة”

Cover Image for في الحاجة إلى التمييز بين “الدولة” و”نظام الحكم” ثم “الدولة العميقة”
نشر بتاريخ

يحكى في قديم الزمان أن قائدا في أدغال أفريقيا كان محبوبا في قبيلته، فأصابه مرض ألزمه الفراش لشهور. وبعدما تعاقب عليه حكماء كثر (أطباء)، واستيأسوا من وضعه، جاءه حكيم من قبيلة بعيدة، فشَخَّصَ حالته وسط صمت رهيب وانتظار مقلق، حتى رفع رأسه مبتسما معيدا الأمل لأفراد القبيلة، فقال لهم استبشروا فإن شفاءه ممكن، فآتوني بعشبة «زومبوكلو»، فما كان عليهم من شدة فرحهم بهذا الفرج إلا أن يهرعوا للغابة زرافات دون تفكير، طلبا لنيل درجة السبق وجميل إنقاذ القائد. وبينما هم يبحثون هنا وهناك حتى وجدوا أنفسهم وسط الغابة يبحثون عن اللاشيء، فرجعوا إلى بعضهم البعض وتساءلوا وماذا يقصد الحكيم بعشبة “زومبوكلو”؟

أحيانا ونحن في حمأة البحث عن حقيقة ما لا نَأْبَهُ بالمنطلقات والمقدمات بقدر ما ننشغل بالنهايات والغايات، وهذا ما يحول دون وصولنا للغاية المرجوة لأننا نَضِلُّ الطريق منذ الخطوة الأولى. هذا الأمر ينطبق تماما على منهجية تداولنا للقضايا المتعلقة بالسياسة والأخلاق والفكر، فقد تجدنا نغوص في أعماق النقاشات والحوارات ونختلف أفقيا وعموديا في قضية ما، دون أن نحدد المفهوم المركزي للقضية موضوع النقاش، وهو ما يقودنا حتما إلى الدوران في حلقة مفرغة كما تاه الباحثون عن عشبة “الزومبوكلو”، والحالة هذه لا يزيدنا الحوار إلا بعدا وشرخا.

على هذا النحو، يتأسس الاختلاف في السياسة بين “المحافظين” الذين يدافعون عن بقاء الأوضاع كما هي عليه متشبثين بنظام الحكم أيا كان أداؤه، والمطالبين بتغيير الأوضاع من خلال تغيير نظام الحكم إن كان هذا النظام هو سبب تكريس الفشل وتقهقر الدولة. هنا تختلط الأمور ويختلط مفهوم الدولة مع مفهوم نظام الحكم، وأثناء التدافع والصراع بين المتشبثين بنظام الحكم ودعاة التغيير يبرز كيان اسمه الدولة العميقة. بالتالي نجد أنفسنا أمام ثلاثة مصطلحات: الدولة/ نظام الحكم/الدولة العميقة. فما الفرق إذن بينها؟ وما هي حدود الاتصال أو الانفصال بينها؟

أولا: مفهوم الدولة الحديثة

تختلف تعريفات الدولة من حقل معرفي إلى آخر، لكن يبقى القاسم المشترك بين كل هذه التعريفات هو الآتي:

–  شخصية معنوية تعبر عن الشعب

–  جهاز يصون السلطات

–  جهاز يدير الصراع السياسي

–  قوة عامة ومجبرة

بالتالي فإن الدولة بهذا المفهوم تكون جهازا وكيانا محايدا تشبه في ذلك الماء والهواء، فهي حاجة وضرورة لحياة ونظام وبقاء المجتمع، ما يعني أن “الدولة الجهاز” لا لون ولا طعم ولا رائحة لها؛ فهي القالب (socle) الذي يتسع لكل من ينتسبون إليه. بهذا يفترض أن يكون كل من يشتغلون في جهاز موظفون محايدون تحكمهم عقيدة الحفاظ على جهاز الدولة ولا يكترثون بمتغير “الحكم”. والدولة الحديثة وظيفتها حسن استعمال السلطة وضمان صراع سياسي هدفه خدمة المواطن. وعليه فإن الدولة الحديثة مِلْكٌ مشاع بين كل المواطنين وليست مِلْكاً لشخص أو نظام أو حزب أو طائفة…

ثانيا: مفهوم نظام الحكم

يُعَرَّفُ نظام الحكم الحديث بأنه مجموعة من الأسس والمعايير التي تحدد طبيعة العمل السياسي في دولة ما، والكيفية التي يتم من خلالها تصريف السلطات. على ذلك، يعرف العالم عدة أنظمة للحكم، منها النظام الجمهوري الرئاسي، والنظام الجمهوري البرلماني، والنظام الملكي التنفيذي، والنظام الملكي البرلماني…

على هذا الأساس فإن نظام الحكم هو الذي يعطي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لونا وطعما ورائحة معينة.

بناء عليه، فالدولة الحديثة باعتبارها جهازا محايدا لا تتأثر بتعدد وتغير الألوان والأطعمة والروائح أي لا يهمها أنظمة الحكم المتعاقبة ولا الحكومات المتتالية، كل ما يهمها أن تعمل على إدارة الصراع داخل النظام الواحد أو الأنظمة المتجاذبة، بما يضمن سلامة الدولة وبقاءها أي ضمان سلامة الشعب ومصالحه العليا. هكذا لا يمكن البتة اعتبار المطالبة بتغيير نظام حكم فاشل في تدبير السلطة، سعي لإضعاف الدولة وإسقاطها، إلا إذا بلغ نظام الحكم درجة من الاستبداد القصوى ومقام متطرف في التصوف السياسي أصبح يتوهم فيها أنه هو الدولة وأن الدولة هي هو، أي عندما يدخل النظام حالة من الحلول والاتحاد مع الدولة! للأسف الشديد العديد من مثقفينا وسياسيينا مُشْبَعُونُ بهذا الاعتقاد، ما يجعلهم لا يزايلون بين الدولة والنظام.

إن من أوضح تجليات صفة الاستبداد والفساد في نظام حكم ما، اختطافه لجهاز الدولة وجعله بكل موظفيه أداة في خدمته لا في خدمة الشعب، من ثم تفقد الدولة الإجماع حول الولاء المطلق لها ما دام هذا الولاء يعني الولاء لنظام الحكم الذي قد يتفق الناس أو يختلفون معه. على هذا الأساس فإن النضال من أجل تحرير الدولة وجعلها مِلْكاً مشاعا بين كل المواطنين، جهازا محايدا في خدمة الوطن والمجتمع، من أولى الأوليات ومقدمة لأي إصلاح منشود؛ إذ وحدها “الدولة الجهاز” القادرة على إرساء نظام حكم يتسع لكل التوجهات السياسية ما دام أن الصراع بينها حول السلطة لا يهدد كيان الدولة.

ثالثا: مفهوم الدولة العميقة

طفَا على السطح منذ تسعينيات القرن الماضي مفهوم بدا جديدا، هو الدولة العميقة. يختص هذا المفهوم الذي جاء في السابق تحت مسميات مختلفة مثل “دولة داخل الدولة”، و”حكومة الظلّ”، و”الحرس القديم”، و”مراكز القوى”، و”الدولة المزدوجة”، و”الدولة الموازية”، بمعالجة قضايا تتعلق بموضوعات الهيمنة على القرارات المتعلقة بتوزيع المصادر المحدودة داخل الدولة، والصراع الناجم عن ذلك بين مكونات القوى المختلفة فيها، بما يتضمنه ذلك من إمكان اللجوء إلى استخدام العنف، وما ينتج عن ذلك من تحولات متعلقة بالنظام السياسي ومركّباته وآلياته وفاعليته. من خلال مراجعة الأدبيات السياسية الشائعة المروجة لوجود الدولة العميقة، نجد أنها تعني، عموما، وجود مجموعة غير مرئية وعميقة التجذر، غير خاضعة للمساءلة أو المحاسبة، تسيطر على صنع السياسات الداخلية والخارجية للبلد، وتتخفى تحت السطح الظاهر لنظام الحكم القائم على أساس الدستور والقانون. ما يعنيه ذلك، من ناحية فعلية، هو انتقال القوة من عند المنتخبين إلى آخرين غير منتخبين، يصبحون هم المتحكمين الحقيقيين في القرارات السياسية الأساسية في البلاد، فيسيرونها وفق أجندتهم الخاصة، تحقيقا لرؤيتهم ومصالحهم.

وفي الحصيلة، يصبح في الدولة مستويان للحكم:

–  المستوى الأول، هو الظاهر والمُنتخَب الذي يُظَنُّ أنه المسؤول عن تحديد سياسات البلاد، ولكنه في حقيقة الأمر ليس أكثر من مستوى صوري ومظهري فقط، وتبقى درجة تمثيله للشعب وتحكمه في النظام ضعيفة، إن لم تكن معدومة على نحو كامل.

–  أما المستوى الثاني فهو الباطن، وهو غير منتخب، بل إنه المستتر الموجود في ثنايا المستوى الذي يغلفه، ومن ثم يوفّر له الحماية من الانكشاف للشعب. هذا المستوى هو الذي أصبح يشار إليه بالدولة العميقة التي صارت فعليا تعد الأهم من الدولة الظاهرة، لأنها هي التي تتحكم في معظم الخيارات والقرار داخليا وخارجيا. إذن، نحن أمام دولتين؛ الأولى سياسية يمثّلها رأس جبل الجليد الظاهر فوق سطح الماء، والثانية تقودها جهات خفية قد تكون إدارية – أمنية وقد تكون لوبيات اقتصادية، كما قد تكون وطنية مثلما قد تكون مسيرة من الخارج، وهي تمثل جبل الجليد القابع تحت السطح. باختصار الدولة العميقة هي “دولة” من داخل دولة، تتصرف كأنها فوق الدولة.

خلاصة:

تبين لنا من خلال التعريفات أعلاه أن ثمة بونا شاسعا بين مفهوم الدولة، ومفهوم النظام، ومفهوم الدولة العميقة. الدولة هي الحالة الطبيعية التي يفترض فيها وجود جهاز محايد يحمي المصالح المشتركة العليا لشعب ما، ويضمن استمرار التدافع والصراع السياسي من داخله في سلم وأمن. أما النظام السياسي فهو اللون الذي يأخذه الحكم والخيار السياسي الذي يقترح نفسه حلا ناجعا لخدمة شعب معين. في حين أن الدولة العميقة هي تنظيم خفي يقبع خلف الدولة السياسية استطاع أن يتغلغل ويتحكم في دواليب جهاز الدولة وجعلها في خدمة جهة ما قد تكون حاكما أو لوبيا أو جهة خارجية.

بالتالي فإن النضال من أجل تحييد أجهزة الدولة، هو من جهة سعي عميق لجعل الدولة مِلكاً للجميع، وسلوك سياسي فعال لإرساء نظام عادل من جهة أخرى. علاوة على ذلك، فإن الدولة باعتبارها جهازا إداريا أسمى يسهر على مصالح الدولة العليا لا يقبل البتة بوجود دولة شريكة توصف بالعميقة. وبلغة المنطق في مبدأ الثالث المرفوع لا يوجد حد وسط بين نقيضين، ولا يمكن اجتماع نقيضين في شيء واحد، فإما أن تكون هناك دولة هي الضامن للمصالح العليا، أو تكون هناك دولة عميقة تنفي الدولة وتحل محلها لضمان مصالح ضيقة لجهة ما على حساب الشعب. هنا يصبح النظام الحاكم هو المسؤول عن هذه الحالة بل جزء منها ما يستوجب تجاوزه عند العمل على تحرير الدولة.