قصتي مع “طوفان الأقصى” | ذة. زينب شكر الله

Cover Image for قصتي مع “طوفان الأقصى” | ذة. زينب شكر الله
نشر بتاريخ

طوفان الأقصى.. هجرة نحو موعود الله

السابع من أكتوبر 2023، الموافق لِـ22 من ربيع الأول 1445، أو السبت المجيد كما سماه البعض وأحببت.. قد يستغرب القارئ لوهلة عن سبب إشارتي للتاريخ الهجري أيضا، الجواب بسيط جدا؛ لأنني أظن أن تاريخ انطلاق معركة “طوفان الأقصى” المباركة كان هجرة!

هجرة بعد طول ظلم وتنكيل وعدوان غاشم ومقاومة لم تتوقف يوما عن الإعداد والإمداد، هجرة للتعتيم الإعلامي نحو فضح المسخ المسمى “احتلالا” حتى أمام تلك العيون التي كانت مصابة بالعمى قبلا، كأن العالم من شرقه إلى غربه على حد سواء اكتشف فجأة في لحظة إدراك واحدة، وجود بقعة على وجه البسيطة تسمى فلسطين، ما زالت صامدة في وجه العِدى منذ 76 سنة إلى الآن..

هجرة نحو العِز وإعلاء راية الحق، هجرة نحو موعود الله!

ما زال شعوري يومها راسخا في القلب والذاكرة. رَباه! إذا كان ذاك شعور فرح واعتزاز بانتصار مجاهدينا في معركة، فكيف سيكون يا ترى شعور الانتصار في الحرب؟! كيف سيكون الشعور يوم النصر الأكبر؟!

لست أدري حقا، لكني أظنه سيكون مشابها لما أشعر به كلما قرأت عن يوم فتح مكة؛ قشعريرة تتملك الفؤاد قبل الجسد، واعتزاز يغطيني من أعلى رأسي إلى أخمص قدميّ، شعور يجعل كلمات رسول الله يومها – يوم الفتح – تتردد رنانة في أذنيّ: لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده!

ما أشبه آيات الله في كونه بين الأمس واليوم؛ هي سنة الله في أرضه، ونهج مَالِك يتصرف في مُلكه سُنَّةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِى قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلًا [الفتح، 23].

كانت سنة الله وآياته هذه، أَمَلي وسَلْواي معاً، آيات تعكس واقع أرض المعركة، واقع أمة في الحقيقة، حيث لا عِز بلا تضحيات، ولا جنة بلا فِداء، ولا ولادة بلا مَخاض!

أدركتُ هذا في إحدى الليالي الهادئة هنا، الصاخبة بالقصف وصرخات الثَّكالى هناك، ليلة آمل أن تكون شاهدة لي عند رب كريم، يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوٓاْ ۚ أَحْصَىٰهُ ٱللَّهُ وَنَسُوهُ ۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ شَهِيدٌ [المجادلة، 6]. كان رب السماوات وحده شاهداً على الألم الذي اعتصر صدري يومها، والعَبَرات التي كلما صافحت خدي سألها: هل من مزيد؟!

كان هناك المزيد، المزيد من الدموع، المزيد من الألم، والمزيد المزيد من الشعور المَقيت بالعجز..

لم تكن تلك الليلة هي الوحيدة في سلسلة الليالي التي انهارت فيها قِواي وقدرتي على التحمل:

تحمل مُساءَلتي لنفسي، هل تُراني خذلتهم؟!

تحمل صحتي النفسية لِكل مَشاهد العدوان والوحشية التي تلت ذلك التاريخ.

تحمل الكثير، ذلك “الكثير” الذي لا يكاد يكون مثقال حبةٍ مِن خردل في ميزان ما تحملوه.

لم تكن الليلة الوحيدة، لكنها كانت الأولى منذ بداية الطوفان، كان قد مَرَّ وقتها شهر ربما أو أكثر؛ أدركتني ليلة كان حالي بها كما القائل: “يحمِلُ أحدُنا في صدرِهِ بكاءً عربيًّا لا يدرِي أينَ يذهبُ به”. كان بكائي فلسطينيا، غزاويا على وجه التحديد.

في تلك اللحظة بالضبط، جاءني صوت ذاك الشيخ الوقور، حسن المُحَيا، ثابت المَقال: “ما تعيطش يا زلمة، كلنا شهداء، كلنا مشاريع شهداء، قُل إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها… أرض جهاد هذه وأرض رباط، كلنا في سبيل الله”. أي يقين هذا وأي ثبات؟! إنَّ اللهَ حقا يعطي أصعبَ المعارك لأقوى جنوده، وأهل غزة خير جُندِ الله على أرضه؛ جند منهاجهم قرآنهم، وشعارهم: “إنه لَجهاد نصر أو استشهاد”!

لا هزيمة لقوم كهؤلاء، قوم يشربون من ينبوع الشهادة تِباعاً، مزدحمون عليه كما ازدحام المسلمين على بئر زمزم!

لا هزيمة لقوم تراهم يشدون على كتاب ربهم بأيمانهم، وسبابات شمائلهم متأهبة لتضغط على الزناد! تحت القصف، رغم النزوح، عنادا بالتجويع والتحريق والتشريد، كان كتاب الله دائما هناك، يحملونه في قلوبهم، تلهج به ألسنتهم وتعمل به جوارحهم! وهناك يختبئ السر.

حَيرنا صمودهم، يقينهم، ثباتهم للحد الذي جعلنا نقول أنهم أُناس من طينة أخرى، لا تشبهنا، والحال أن القرآن امتزج بخلاياهم حتى ما عادوا حقا يشبهون أحدا من خلق الله. أخذوه بقوة، فآتاهم الله قوة وجَلَداً من عنده يَٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَٰبَ بِقُوَّةٍۢ [مريم، 12].

رأيت آيات الله في أهل غزة ومقاومتهم الباسلة. رأيتها في قوة إعدادهم، في أنفاقهم، في دقة تقنياتهم وفي إقدامهم. رأيت المثال الحي لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد، 7].

أظن أن الحزم في الإعداد، نصرة لدين الله، نصرة لله، وصدق خالص في طلب وجهه تعالى. وذاك كان النور الذي اتبعوه، لم يأت بين يوم وليلة، فَأبناء الطوفان اليوم، هم أنفسهم أطفال حجارة الأمس، غير أن طفل الحجارة اشتد عوده، وكبر معه ثأره يوما بعد يوم. فَاللهم ثأرا ونارا وبلاء على الاحتلال كالسابع من أكتوبر.

اللهم إن هؤلاء ثلة من أمتك لا تزال ظاهرة على دينك، صابرة، مرابِطة بأكناف بيت المقدس، ثلة جاءتك بالأسباب، وأنت رب الأسباب، فانصرهم نصرا عزيزا كما وعدت.

وتذكر دائما: “إن المقاومة جذوة مستمرة، لا انتهاء لها إلا بنصر أو شهادة”. على هذا الدرب والنهج سار مُقاوِمونا، وعليه نَسير مخلصين لله إلى يوم الدين، فالزم ثغرك، إياك أن تمل أو تنسى، ما يُسفك دم وليس ماء، ما نَعُدُّه منذ السابع من أكتوبر، ليست أيام تقويم عادية، بل أياماً من الإبادة المسعورة والمستمرة، ما نحصيه شهداء لا أرقام. لن يحمل راية النصر متخاذل، فَالزم ثغرك؛ قاطع، انشر، قاوم.. وقبل كل هذا اجعل الطوفان يمس قلبك، يمس ما خفي عن الناس وعلمه الله وحده.

ليكن حالك بعد الطوفان مغايرا لما قبله، ليكن الطوفان لكَ هجرة؛ هجرة من نسختك القديمة إلى نسخة أخرى أشد تَهمُّماً بحال أمتها، وأكثر وعيا بِواقعها، نسخة يرضى الله خلواتها كما جَلَواتها، واحذر أن يوتَين هذا الدين مِن قِبلك!