قصتي مع “طوفان الأقصى” | ذ. المصطفى سنكي

Cover Image for قصتي مع “طوفان الأقصى” | ذ. المصطفى سنكي
نشر بتاريخ

أما قبل:

ليس من رأى الأهوال التي تشيب من وحشيتها الولدان كمن سمع بها أو قرأها تاريخا، مهما حازت الرواية التاريخية من دقة وحيادية؛ إذ لا يسع كل متتبع ما يقترفه جيش الاحتلال الصهيوني من جرائم حرب وإبادة عرقية في غزة منذ انطلاق طوفان الأقصى يوم السابع من أكتوبر 2024، دون تمييز بين أطفال أو نساء أو شيوخ وعجزة؛ جرائم تؤشر إلى مستوى الخبث النفسي لصهاينة جُبلوا على إشعال الحروب وسفك الدماء وإزهاق أرواح الأبرياء والدوس على الكرامة الإنسانية للشعب الفلسطيني، بدعم سافر من غرب منافق، وتواطؤ دنيء للنظام العربي الرسمي؛ جرائم ببشاعتها أيقظت الضمير العالمي، فهب أحرار العالم متضامنين مع أهل غزة العُزل إلا من الإيمان بالوعد القرآني والبشارة النبوية لأهل المقدس بالنصر والتمكين.

وعلى بشاعة العدوان الذي فاق الخيال، جاء صمود أهل غزة العزة أسطوريا، جسدته مواقف التمسك بالأرض ورفض التهجير مهما كان البطش والتنكيل، مثلما عبرت عنه عبارات الرضا بقضاء الله واليقين تحت جحيم القصف والخسف في نصر الله؛ عبارات الحمد وزف الشهداء تناقلتها وسائل التواصل الاجتماعي، وكان لها الأثر البليغ في نسف السردية الإسرائيلية التي اشتُغِل عليها منذ عقود، بل وأسعفت الأحداث في اكتشاف دور الوازع الإيماني والعقدي في بناء شخصية فلسطينية معتزة بدينها، متمسكة بعدالة قضيتها.

ومع تعدد مظاهر الصمود لأبشع عدوان في التاريخ البشري الحديث، يبقى التفاف الشعب حول مقاومته عنوانا لافتا، فإذا كان فرار المدنيين من ويلات الحروب سلوكا عاديا نجاة بالنفس من التهلكة، فقد كان إصرار الغزيين على رفض مغادرة القطاع وإفشال مخططات التهجير مهما تنوعت أساليب التهديد والوعيد درسا بليغا.

أجل، لقد أثبتت يوميات العدوان الغاشم رباطة جأش المقاومة التي فاجأت العدو بمواجهات من مسافة الصفر، وكشفت “عورات” صناعته الحربية باستهدافها بأسلحة مصنعة محلية، لكن يبقى الإسناد الشعبي أو ما يصطلح عليه بالحاضنة الشعبية مثار إعجاب وتقدير. حديثنا إذن عن الحاضنة الشعبية ضرورة وتعريفا ومرتكزات ووظائف، تعريفا خجولا بالقضية ودعما لتضحيات أهالينا في غزة العزة.

في ضرورة الحاضنة

من البَدَهِيّات القول: إن حاجة أي تنظيم سياسي أو دعوي أو نظام لحاضنة شعبية كحاجة السمك للماء، فهي مصدر القوة والشرعية والسند. وأي مشروع تغييري أو حتى إصلاحي لا يتبناه الشعب أو قطاعات مهمة منه، تؤيده وتحميه، لا تتوفر له أسباب النجاح والصمود. وقد شكل إيواء الأنصار في المدينة المنورة للدعوة أنصع مثال لحيوية الحاضنة الشعبية، وهو ما يسّر – توفيقا من الله تعالى – أسباب استنبات المشروع ومكنه من الصمود والاستمرار قبل الإشعاع. كما تُمثل اليوم الحاضنة الشعبية الفلسطينية للمقاومة بقطاع غزة نموذجا مشرقا لدعم المشاريع التحررية.

في التعريف والوظائف

الحاضنة لغة اسم فاعل من حضن يحضن حضنا، وتعني الحماية والدعم والإسناد. وتجسد الحاضنة الشعبية البيئة الاجتماعية والعمق الشعبي للمشروع. ولها وظائف منها:

– دعم المشروع واحتضانُه وتنزيله واقعا، لكي لا يستحيل ترفا فكريا بين النخب المثقفة.

– توفير الزخم الشعبي للمشروع وحمايته: قالت الأنصار مؤكدة بيعة العقبة الثانية: “نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف. ابسط يدك يا رسول الله لنبايعك فبسط يده فبايعوه”.

– تحمل أعباء التغيير وكلفة التحرر، ولعل الغزيين بإسنادهم للمقاومة يرسمون بصمودهم وثباتهم أروع صور البذل والتضحية.  

مرتكزات الحاضنة الشعبية

– موافقة هوية الشعب: استجابة المشروع لمطالب الشعب وانتظاراته. يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله مخاطبا المعسكر اليساري: “أين أنتم  عافاكم الله  من أن يستمع إليكم الشعب وأنتم في أبراجكم العاجية تمضغون الكلام الإيديولوجي؟” (العدل ص: 628).

– وضوح المشروع: فعلى قدر الوضوح تكون الاستجابة ويكون الالتفاف والتجاوب.

– صحبة الشعب وخدمته: إن ما يُظهره الغزيون اليوم من إسناد للمقاومة يعكس مستوى الوعي الشعبي من جهة، مثلما هو ثمرة لتضحيات المقاومة لتوفير أسباب الحياة الكريمة رغم التضييق والحصار، من جهة ثانية. ولله در أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها وهي تواسي رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عاد خائفا مرتعدا من هول اللقاء الأول مع سيدنا جبريل عليه السلام: “كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق”؛ “قد عددت رضي الله عنها وهي الحكيمة أخلاقه صلى الله عليه وسلم الاجتماعية. وفي ذات السياق قال ابن الدغنة (سيد في قومه) لأبي بكر رضي الله عنه وهو في طريقه إلى الحبشة فارا بدينه من مكة: “إن مثلك يا أبا بكر لا يخرج، ولا يُخرَجُ مثله، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتُقْري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جارٌ، فارجع، واعبد ربك ببلدك”. (الجار من الجوار ويعني بلغة العصر اللجوء السياسي).

خلاصة

– تمثل الحاضنة الشعبية الرصيد الاستراتيجي لأي حركة تحررية، وعلى قدر صلابتها وتماسكها يكون الدعم والإسناد: “ولولا رهطك لرجمناك”.

– تتنافس المشاريع السياسية والمجتمعية على امتلاك أكبر قاعدة شعبية مساندة، وكلما اتسعت قاعدة الحاضنة الشعبية لمكون ضاق الخناق على الطرف المنافس. لذلك، يستثمر الاستبداد أموالا وجهودا كبيرة لتوسيع دائرة مناصريه من المستفيدين من ريعه؛ قواعد من عموم الشعب ومن نخبه تتولى التصدي لمعارضي النظام، وتخوض حربا بالوكالة عنه في مختلف الجبهات.

والحمد لله رب العالمين.