قضية الأسرة في فكر الإمام رحمه الله

Cover Image for قضية الأسرة في فكر الإمام رحمه الله
نشر بتاريخ

مقدمة

بمناسبة الذكرى الحادية عشرة لرحيل الإمام رحمه الله تعالى، ووفاء له ولمشروعه التجديدي، يطيب لي أن أتقدم بين أيديكم بهذا المقال حول الأسرة في التصور المنهاجي.

إن من يبحث عن كلمة الأسرة في مكتوبات الإمام رحمه الله تعالى التي تزيد عن الأربعين مؤلفا، سيجد من كثرة ما تكررت الدليلَ القاطع على الأهمية القصوى التي أولاها الإمام رحمه الله لهذه المؤسسة العظيمة.

والملاحظ في هذه المكتوبات أيضا أن تركيزه على قضية الأسرة يربطها دائما بجملة من القضايا الأخرى التي لها علاقة وطيدة بها. مثل: الفطرة، التربية، التعليم، الأم، الأخلاق، الزواج، الاستقرار، الطفل، المرأة… والعجيب في الأمر أنه يربطها في نسقية تامة بحيث تؤدي بتكاملها إلى تحقيق هدف عام هو العمران الأخوي.

ويمكن أن نعبر عن هذا الترابط بهذه الخطاطة:

 

ومن هذا المنطلق سنحاول البحث في بعض هذه العلاقة التي تربط بين الأسرة وهذه القضايا، لعلنا نكتشف وجه التجديد في التصور المنهاجي في هذه القضية التي أصبحت موضع نقاش مجتمعي، اليوم الذي جاء في سياق إصلاح مدونة الأسرة. وقد سبق للجنة المشتركة التابعة لجماعة العدل والإحسان تقديم وثيقة مفصلة حول الموضوع. وحتى لا يأخذ المقال من عدد السطور ما يبعث على الملل من طول القراءة سأكتفي بالإشارات فقط.

الأسرة

لبنة هي من أهم لبنات المجتمع في بناء صرحه واستوائه وعلوه، والتي كان لها دور عظيم وكبير عبر التاريخ في تربية الإنسان وبناء شخصيته قبل ظهور المسجد والمدرسة والمعهد والجامعة. إنها الأسرة من أب وأم وأولاد. عرفت تطورا على عدة مستويات، لكنها بقيت بنفس المكونات الإنسانية. ولقد حاول المجتمع أن يتنازل عن مجموعة من لبناته مع الزمن، لكنه لم يتنازل عن لبنة الأسرة. ولأهمية الأسرة الكبيرة في بناء المجتمع وتماسكه وقوته صارت محطّ استهداف اليوم بالتخريب والتدمير والتفكيك. فقد تأكد لأعداء الإنسانية أن القضاء على الأسرة هو القضاء على ما تبقى من ركائز المجتمع وبالتالي على الأمة.

هذه الأسرة من أب وأم وأولاد كما هي لبنة من لبنات المجتمع، فهي كذلك المحضن للتربية، وهي المؤسسة لصناعة الأجيال، وهي المشروع للتغيير، وهي البرج الاستراتيجي للتخطيط والتدبير والمراقبة لكل خطر محدق، وهي الخندق للدفاع عن الفطرة السليمة وعن الأخلاق الحسنة.

الأسرة والزواج والاستقرار

إن الزواج الإسلامي في التصور المنهاجي ليس فقط عقدا بين ذكر وأنثى لإرضاء الفطرة، ولا هو استجابة للغريزة الراسخة في الإنسان فحسب، وإنما هو عهد وطيد غليظ. هكذا وصفه الله عز وجل في كتابه العزيز. إذ قال سبحانه وتعالى: [وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا] (النساء:21). وقد جاء في التفسير عن قتادة قوله: “وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا”. والميثاق الغليظ الذي أخذه للنساء على الرجال: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.

إلى جانب هذا فإن الزواج الإسلامي يُعتبر بما يُسبغ عليه جلالُ الميثاق الغليظ من قدسية، نقيضا للعلاقات السائبة والفاسدة غير المسؤولة ولا المقيدة بضابط شرعي أو خلقي. الزواج الإسلامي باختصار شديد هو اختيار ومسؤولية وتيسير، وهو أيضا تلاطف وتعاطف، هو ألفة وقُرب. ومن ثوابت الإسلام الشرعية في الزواج الكفاءة بين الزوجين. ومعيار هذا التكافؤ بين الزوجين نجده في قوله صلى الله عليه وسلم: “إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكون فتنة في الأرض وفساد عريض” 1.

وفي هذا السياق ليس من شرط صحة الزواج الإسلامي أن تحلف له، ويحلف لها، لكن مجرد القبول والرضا والإشهاد يتضمن العهد واليمين والأمانة. في صحيح مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبة حجة الوداع: “استوصوا بالنساء خيرا، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله”. كلمة الله وأمانته وعهده وشريعته هي: إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ 2.

بهذا الفهم نسمو بالزواج الإسلامي من واقع الهوس والاختلاط الإباحي المستهين بالقيم والفطرة والدين إلى أن يكون حياة طيبة لها أصل ثابت في أرض الشرع، وله فروع في سماء الأسرة تأتي أكلها من الأجيال الصالحة والمصلحة بإذن ربها الخير الكثير.

أما الاستقرار الذي يتحدث عنه التصور المنهاجي فلا يعني الجمود الأسري بل يعني التطور على مستوى العلاقة التكاملية في الوعي والتواصل والتقارب والوسائل والأساليب ما يرفع الأسرة من واقع تقليدي إلى واقع نموذجي. كما لا يعني الاستبداد الذكوري بأن يصبح الرجل هو الآمر والناهي والباقي منفذون فقط. بل يعني التعاون والتراحم والتحاب والحوار والتفاهم والتطاوع داخل الأسرة. فكل المعاني التي تزيد من تماسك الأسرة وقوتها تدخل في إطار قاموس الاستقرار الأسري.

وعندما يحصل الاستقرار يمكن للأسرة أن تحتضن هذا الإنسان الفرد وتعمل على حفظ فطرته وتسهر على تربية شخصيته حتى يصبح رجلا مؤمنا وامرأة مؤمنة. وبهذا الاستقرار أيضا يمكن للأسرة أن تبني عمرانا أخويا وتصنع مجتمعا سويا متماسكا بأفراده وقويا بأُسَره الذي سيتطلع إلى بناء الأمة بتوحيد مجتمعاتها.

الأسرة والفطرة السليمة

الأسرة المؤسسة، المحضن، المدرسة، الحصن، هذه الأوصاف وغيرها التي تطلق على الأسرة هي بمثابة وظائف وأدوار تقوم بها في المجتمع. وسط هذه الأسرة يُنبِت الله ما شاء من البراعم والزهرات، من الأبناء والبنات. في البداية يُولدون على الفطرة السليمة، ثم بعد ذلك في حضن الوالدين ينمون ويكبرون بما يتغذون به من آبائهم وأمهاتهم، وما يتلقونه منهم من تربية ورعاية.

الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله يقول في كتابه “إمامة الأمة”: “للفطرة في القرآن مفهوم خاص، مخالف للمعنى الدارج للكلمة. المعنى الدارج يجعل الفطرة مرادفة للسذاجة والغفلة. والمعنى القرآنيُّ يعطيها مدلولَ استواء الخِلقة الباطنية للإنسان، المجبولةِ على الإيمان بالله جل وعلا ومعرفته. فمعنى سلامةِ الفطرة، هي سلامةُ هذه الخلقة الباطنية، المعبَّرِ عنها بالقلب، واستعدادُها لتلقي الإيمان بالله عز وجل وبغيبه، وكفاءتُها لمعرفته سبحانه وتعالى” 3. وحتى يؤكد الإمام رحمه الله على دور التربية في استواء هذه الفطرة أو اعوجاجها يقول في كتاب “الإحسان: “والفطرة إقامة الوجه لله، وَتَستوي الفطرة أو تَعْوَجُّ وتحيد عن الجادة بالتربية” 4.

هذه التربية تكون آثارها ظاهرة على الأطفال بحسب المرجعية التي تستقي منها، فكلما كانت التربية بمرجعية أخلاقية كلما حافظت الفطرة على سلامتها من دون تحريف ولا تشويه، وبقيت مستقيمة من دون اعوجاج ولا انزعاج. بيد أن الأمر لو كان يقتصر على حضن الوالدين فقط لانتهت المشكلة عند حسن التربية. أما والأمر يتعلق أيضا بالبيئة الخارجية عندما يطأ ساحتها هؤلاء الأطفال وهم في مرحلة التلقي والتأثر بكل ما تعجّ به هذه الساحة من أفكار وعادات وسلوكيات فهذا تحدّ آخر أخطر.

لذلك الفطرة هنا عندما تصطدم بهذا التحدّي الخارجي الجديد يفرض عليها الواقع نوعا من المناعة القوية والكاملة، وإلا تعرضت للإفساد. تلك المناعة لا يمكن أن تتمّ إلا داخل الأسرة المسلمة، كما أنه لا يمكن أن تُصنع بالدرجة الأولى إلا على يد الأمّ المؤمنة المربّية الحامية للفطرة، الحاضنة للأجيال، والصانعة للمستقبل.

هذه الفطرة التي عهد النبي صلى الله عليه وسلم حفظها للأبوين، تتحمل المرأة المؤمنة القسط الأكبر من المسؤولية في حفظها لما لها من علاقة مباشرة بالناشئة. فقد جعل الله تعالى حبل الفطرة ممتدا عبر الأجيال عن طريق الأمومة. يولد الجنين فيصير طفلا لا يرى له من قدوة أمام عينيه غير أمّه يسمع كلماتها البسيطة في حجرها تخبره بحقائق الوجود والعقيدة الصحيحة وخبر الآخرة ليكون ذلك له زادا به يستفيض عمرُه. يقول الله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (الروم:30).

تبيّن لنا مما سبق أن المولود في أول عهده بالخروج إلى الدنيا يولد على الفطرة السليمة، وحفاظا على سلامة هذه الفطرة نجد في ديننا الحنيف مجموعة من الإجراءات العملية هي من صميم السنة النبوية يؤكد على امتثالها وتطبيقها في الحياة الأسرية. اعتبرها العلماء وأدرجوها في باب حقوق الأبناء على الآباء. نذكر منها: الأذان، التسمية، العقيقة، التربية، التعليم، النفقة، الرعاية، التسوية بين الأولاد، الرحمة بالأولاد، الدعاء لهم بالصلاح…

بهذه التعليمات النبوية يبدو لنا جليا أن الحفاظ على سلامة الفطرة من مسؤولية الأبوين بالدرجة الأولى، ثم يأتي التضامن الأسري والعائلي بما يشتركونه من فضائل إسلامية ليكون الحافز المساعد على أداء هذه المسؤولية بنجاح. وعندما نحافظ على سلامة الفطرة بهذا الشكل إنما نحافظ على السلسلة الفطرية في حبلها الممتد حتى يستمر عبر الأجيال في المستقبل.

الأسرة والتربية والتعليم

التربية هي قِوامُ نجاح الأسرة في أفرادها وصلاحهم، فمتى ما كانت التربية حاضرة بمعناها الإيماني الأخلاقي كلما كانت المؤسسة صالحة وقادرة على إعداد أفراد صالحين ومصلحين. وكلما غابت التربية أو لم تكن بمعناها الإيماني الأخلاقي كلما كانت المؤسسة عائقا بما تنتجه من أفراد منحرفين في تحقيق وبناء مجتمع صالح. والتربية بالقدوة والمثال. لأن الأطفال يتأثرون بالقدوة والمثال أكثر مما يتأثرون بالتوجيهات والنصائح التي تتلقاها مسامعهم. فلا فائدة ترجى من تربية داخل أسرة تكتفي بالأقوال ولا تصدقها الأفعال.

وسوف لا يكون لدور الأم ومعها الأب من أثر رغم ما يحرصون عليه من تربية لأبنائهم لترسيخ هذه الأخلاق داخل الأسرة إن لم يكن لهذا الدور وهذه التربية امتداد خارج البيت، بالمتابعة الميدانية اللصيقة في الشارع وفي المدرسة وفي أماكن اللعب، وفي اختيار الأصحاب، وفي الاستصحاب إلى المسجد وغيره. بدون هذه المتابعة الدائمة سيكون من الصعب اكتمال البناء الأسري بترسيخ الأخلاق في وجود الكثير ممن يحاول هدمها.

بهذه التربية الهادفة نستطيع أن نعيد الترتيبَ الفطريّ للإنسان الذي يرفع القلبَ إلى مقام الإمارة، ويجعل العقل وزيرا له، والحواسَّ خَدَمَةً. فإذا فسدت الفطرة تأمَّرَ العقل، وتمرد على القلب ومعانيه، وهذا فساد العقل الفلسفي العبثي. فإن فسدت الفطرةُ الفسادَ التاليَ للفساد الأول، المُلازمَ له، الناتِجَ عنه، تأمَّر الهوى بشهواته، وسخَّر العقل لأغراضه، وطرد معانيَ القلب.

التربية الهادفة إلى ترسيخ قدم الفطرة في النفوس الناشئة ستصطدم إلى حين بتربية مضادة غايتها تشويه هذه الفطرة. لكن التربية المضادة المشوهة لن تكون الخطر الوحيد الذي يهدد عملية الحفاظ على سلامة الفطرة أو إعادة سلامتها ما دام البؤس الاقتصادي والاجتماعي يولد الانحطاط الخلقي والضلال الروحي في المجتمع. لن تُجدي ولن تنفع إذن محاولة إحلال سلطان الفطرة مجددا وتربية الناس على الاستقامة الروحية والخلقية ما لم تجتث الجذور المادية لداء البؤس والحرمان.

ومع التربية يكون التعليم بالقدوة الحسنة والمثال الحي. فعن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه قال: “كُنْتُ في حِجْرِ رَسولِ اللهِ ﷺ، وكانَتْ يَدِي تَطِيشُ في الصَّحْفَةِ، فَقالَ لِي: “يا غُلامُ، سَمِّ اللهَ، وكُلْ بيَمِينِكَ، وكُلْ ممّا يَلِيك” 5.

بعد ذلك يتدرج مع المولود على الفطرة شيئا فشيئا، ومرحلة بعد مرحلة من خلال التلقين والتحبيب والترغيب. روى الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلقن صبية بني هاشم إذا أفصحوا قول الله عز وجل: وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك. ولم يكن له ولي من الذل. وكبره تكبيرا سبع مرات. وعند البخاري: “باب الدعاء للصبيان بالبركة”. وكان صلى الله عليه وسلم يُستقبل بالصبيان عند قدومه من السفر. وملاطفته صلى الله عليه وسلم لسبطيه الكريمين ولأمامة ابنة بنته، وحبّه لهم، خبر مستفاض. وقد أمرَنا صلى الله عليه وسلم أن نأمر الصبيان بالصلاة لسبع سنوات، فقال صلى الله عليه وسلم: “مروا أولادكم بًالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع” 6. بل إنه صلى الله عليه وسلم بايَع عبد الله بن الزبير وهو ابن سبع، مبايعة تبريك وتشريف لا مبايعة تكليف كما قال ابن حجر رحمه الله.

الأسرة والطفل والمرأة

الأسرة محضِن الطفل وبِيئته الطبيعية اللازمة لرعايته وتربيته، وهي المدرسة الأولى التي ينشأ الطفل فيها على القيم الروحية والأخلاقية والإنسانية. تحقق له الوجود والاستقرار والتنمية.

لعل البعض قد يفهم أن وظيفة الأسرة بالخصوص هي إنجاب الأولاد والحفاظ على استمرار النسل البشري، هذه نَعم وظيفة عظيمة، لكن الأعظم منها هي وظيفة احتضان هذا الإنسان المولود، والسهر على تربيته التربية الشاملة والكاملة حتى يصبح رجلا يساهم في العمران وفي بناء الأمة. هذا الإنسان الذي ينطلق من الأسرة إلى المسجد حيث الروحانية الإيمانية على يد العالِم والجماعة المؤمنة، ثم يعود إليها. وينطلق من الأسرة إلى المدرسة أو الجامعة أو المعهد حيث العلم والأدب على يد المعلّم والصحبة الصالحة ثم يعود إليها. وهكذا تتعهد الأسرة من الوالدين الصالحين النشء بالمراقبة الدائمة إلى أن يستوي على عوده رجلا فاعلا في المجتمع.

وكما يعلم الجميع فإن الأسرة مؤسسة تتأسس بالزواج الشرعي بين رجل وامرأة. ثم يتم الحفاظ على وحدتها من خلال العلاقة الطيبة الباعثة على الاستقرار. وبهذا الاستقرار يتعزّز امتدادها في المستقبل بتأسيس أسر أخرى جديدة من خلال الإنجاب.

وتقوم المرأة (الأم) بدور مهم في تماسك أفراد هذه الأسرة. فهي المسؤولة الأولى فيها والفاعلة والحاضنة والسّكَن وربّة البيت. ومن أجل هذا حَظِيت في الإسلام بقيمة عظيمة تجمع بين الكرامة كإنسانة والحُرمة كمؤمنة. فأيُّ أذى أصابها في كرامتها، فكأنما هو اعتداء على الإنسانية. وأيُّ أذى أصاب حرمتَها فكأنما هو اعتداء على دينها.

والمرأة في القرآن تحظى بتكريم عظيم، إن أدركته وعلمت به سيكون لها الحافز القوي لتطلب الكمال الإحساني حتى تكون من الطاهرات العفيفات التقيات المحسنات. ويتضح هذا في مجموعة من الآيات القرآنية المتعلقة بالمرأة، بحياتها الفردية والشخصية، بحياتها الأسرية، بسعادتها الزوجية، بحافظيتها، بحجابها، بعملها خارج البيت، بدعوتها وجهادها ومشاركتها في الحياة العامة والخاصة. اختارها الإمام رحمه الله بعناية ووظفها أحسن توظيف في حديثه عن المرأة، تدور معانيها على أمرين مهمّين: تكريم المرأة وطلب كمالها الإحساني.

ثم إن التصور المنهاجي حين يتحدث عن تحرير المرأة اليوم وغدا إنما يتحدث عن صلاح المرأة في محنتها الحاضرة كيف تكون مؤمنة بربها ومربية ومشاركة وفاعلة جنبا إلى جنب مع الرجل وذلك باستيحائها للنموذج النبوي الصحي، وتنسّم عبيره، وتجديد أجوائه، والانغراس في بيئة إيمانية تجدد ذلك النموذج روحا وسلوكا وعلما وإتباعا واعتصاما.

الأسرة والقيم الأخلاقية

القرآن الكريم يستعرض قيما أخلاقية مهمة حتى تقوم عليها الأسرة، بحيث إنها إذا غابت أو غُيّبت تعرضت هذه الأسرة للخطر. كقيم البر والإحسان والرحمة والحكمة والمودة والمعروف والصبر والعفو والقوامة والحافظية وغيرها. هذه القيم الأخلاقية كيف يمكن تحويلها من قيم أخلاقية مجردة نقرأها في القرآن والسنة إلى قيم أخلاقية ضرورية لا يمكن الاستغناء عنها وليست تحسينية؟ ثم كيف يمكن تحويلها بعد ذلك كخطوة ثانية إلى مبادئ في الحياة وسلوكيات عملية؟ ثم كخطوة ثالثة، كيف يمكن تحويلها من قيم أخلاقية واقعية عملية سلوكية إلى قيم أخلاقية مَصونة ومَحمية ومُسيجة بسياج متين يمنع من أن تُخترق أو تُفسَد أو تتعرض للخطر؟

هذه أسئلة جوهرية تحتاج إلى أجوبة جوهرية كذلك.

كان المجتمع الذي أسّسه وبناه النبي صلى الله عليه وسلم منطلقه كما أشرنا إلى ذلك هو الأخلاق الحسنة. وذلك في إطار تصور شامل لها، يتكون من بعدين: البعد العمودي في علاقة العبد بربه. والبعد الأفقي في علاقة المسلمين بعضهم ببعض، وفي علاقتهم بغيرهم من الناس، وفي علاقتهم بالكون كله. فكان الفرد عندما يقوى عنده البعد العمودي للأخلاق تبعا لتلك القوة يتحسن فيه البعد الأفقي في تعامله مع الآخر، كيفما كان ذلك الآخر. فإذن هما بعدان متلازمان ومتكاملان في شخصية الفرد وسلوكه. وبهذا المعنى تُشكّل الأخلاق في ديننا منظومة متكاملة لا يمكن أن يستغني عنها أحد من الأفراد أو تفرط فيها مؤسسة من المؤسسات. ومن هذه الأخلاق الحسنة ببعديها جعل الإسلامُ الأسرةَ نموذجا حيّا فريدا.

فكم من أسرة يكون مطمحها الاستقرار، وأن تغشاها السعادة من كل جانب، فتحاول أن تبحث عن ذلك بعيدا عن الأخلاق، فتكون لها المحاولات تلو المحاولات وأخيرا تبوء بالفشل. أو تتبنى الأخلاق لكن فقط في بعدها الأفقي مع الآخر ولا تغذيها بالبعد العمودي من خلال خَلق بيئة أسرية إيمانية فيها الصلاة والذكر والقرآن والعلم. مما يجعل هذه الأخلاق لا تصمد أمام الأزمات والضغوطات والرياح الهوجاء التي تأتي من الخارج. فلا بد إذن من تصور للأخلاق كامل وشامل تتأسس عليه الأسرة ويستوعبه أفرادها وخاصة الساهرين عليها.

أثبت التاريخ أن الحضارة الغربية قامت على دعامتين أساسيتين هما: الأسرة ذات قيم نبيلة. ونظام حكم ديمقراطي. فعملهم اليوم على تدمير هذه الأسرة وتفكيكها من خلال مخططات شيطانية إنما يجرون هذه الحضارة إلى نهايتها. ولولا دعامة الحكم الديمقراطي التي بقيت تشدّ بعض البناء الحضاري لانهار هذا البناء من زمان. ولا محيد لهم عن ذلك.

أما في حالة النظر إلى الواقع العربي والإسلامي فإن الأمر معاكس بالكامل، أسرة غثاء وحكم مستبد، فمن أين نبدأ من الأسفل أم من الأعلى؟ من القاعدة أم من القمة؟ من الأساس أم من القُبّة؟

إذا تصورنا أنّ الأمر عبارة عن بناء فإن البدء يكون من الأساس هو الأولى والأسبق. والأساس الأسرة القوية. وإنما تكون الأسرة قوية بالأخلاق، ولا يمكن لهذه الأخلاق أن تصبح جسدها ولحمها ودمها إلا إذا كانت مرتبطة بالإيمان بالله تعالى وصادرة عن منبعه وتتغذى من روافده. فقلوب أفراد الأسرة وعاء للأخلاق ومصدر للقيم، تُمثل فيها المرأة (الأم) إلى جانب الرجل (الأب) دورا مهما في ترسيخها. وإن السلوك الأخلاقي يكون له معنى في الإيمان بالله والتعلق به. وفي غياب هذا الإيمان بالله تعالى والتعلق به لا حديث عن الأخلاق، وبالتالي لا حديث عن أسرة قوية محافظة على سلامة الفطرة.

خاتمة

تبين لنا مما سبق أن قضية الأسرة في التصور المنهاجي تأتي في نسق متكامل من القضايا، لا يمكن فصلها عنها. وعليه نستنتج أن أي محاولة لإصلاح هذه المؤسسة المهمة بمعزل عن هذه القضايا سيكون ناقصا وجزئيا لا يرقى إلى الإصلاح المنشود. إن التصور المنهاجي إذ يؤكد على هذه المنهجية التكاملية بين كل القضايا نظرا لما تحمله مؤسسة الأسرة من أهمية بالغة في بناء مجتمع العمران الأخوي الذي ينعم فيه الجميع بالأمن والاستقرار والعيش الكريم.

وتظهر أهمية الأسرة حين ندرك أنها اللبنة في بناء صرح المجتمع. وأنها واسطة العقد التي تزين سلسلة الحياة الاجتماعية، وحلقة الوصل التي تربط بين الإنسان والمجتمع. فإذا فُقدت تلك الحلقة الرابطة والواصلة بينهما بقي الإنسان وحيدا تائها في دروبه وغارقا في أنانيته، وبقي المجتمع شكلا بلا روح، لأن عناصره لا تربطها أي روابط تمسكها أو تجمعها. بينما حينما تحضر هذه الحلقة المهمة التي هي الأسرة تجعل الفرد في خدمة المجتمع وتجعل المجتمع في خدمة الفرد أي تجعل بينهما علاقة تبادلية بدل أن تكون منفصلة أو أحادية من جانب واحد.

يقول الله تعالى: ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما (الفرقان:74).


[1] أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] يُنظر عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات ج2، ص:153.
[3] عبد السلام ياسين، إمامة الأمة، ص:112.
[4] عبد السلام ياسين، كتاب الإحسان ج1، ص:80.
[5] أخرجه البخاري 5376، ومسلم 2022 واللفظ له.
[6] رواه أبو داود في سننه 495.