كنوز وجواهر في العشر الأواخر

Cover Image for كنوز وجواهر في العشر الأواخر
نشر بتاريخ

أولى رسول الله صلى الله عليه وسلم من العناية والتخصيص للعشر الأواخر من رمضان الشيء الكثير، لما علمه صلى الله عليه وسلم من كنوز وجواهر مكنونة في ثنايا هذه العشر المباركات، فهي درة الشهر ومسك ختامه، وهل الأعمال إلا بالخواتيم؟

الكنز والجوهر

جاء في المعجم الوسيط أن جوهر الشيء هو حقيقته وذاته، ومعنى كنز المال أي دفنه تحت الأرض أو جمعه واذخره، وكنز الإناء أي ملأه جيدا. من خصائص الجواهر والكنوز أنها ثمينة وذات قيمة كبيرة حيث يتم دفنها ومواراتها عن الأنظار حتى لا تكون عرضة للضياع أو عرضة لمن لا يقدر قيمتها.

لقد ادخر الله عز وجل للمؤمنين من الحقائق والأسرار في هذه العشر الأواخر وملأها بالعطايا والجواهر ما لم يجعله في غيرها من الأيام. غير أن هذا الفضل العميم والكنز الثمين لا يوفق إلى إدراكه إلا من أراد ربك أن يستخرج كنزه بعد أن بلغ أشده بطول صيام وقيام وإقبال على رب رحيم في عشر الرحمة، واستغفار بالأسحار في عشر المغفرة، فتكون عشر العتق من النار إيذانا بسقوط الجدار، وتتويجا لاجتهاد الأبرار.

كنوز العشر الأواخر

خير من أدرك قيمة الكنوز التي أودع الله تعالى في هذه العشر المباركات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فكان يجتهد فيها ما لا يجتهده في غيرها. عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم “كان إذا دخل العشر، أحيا ليله وأيقظ أهله وجد وشد مئزره” 1. وإن في الجد وفي شد المئزر من معاني الاجتهاد والزيادة على المعتاد والتعرض للنفحات والأسرار ما لا يخفى على اللبيب.

فهاهي أيها الحبيب بعض الكنوز المنثورة في هذه العشر المأجورة بإذن الله، فما عليك إلا التنقيب والجد في التقليب عسى الله أن يستجيب:

– العتق من النيران

قال الحق سبحانه: فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز 2. أي فوز أعظم وأي عتق أكرم من أن يفك المؤمن رقبته من النار في زمن شريف صفدت فيه الشياطين وفتحت فيه أبواب الجنان وغلقت فيه أبواب النيران؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن لله عتقاء في كل يوم وليلة في رمضان” 3.

وعن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أول شهر رمضان رحمة ووسطه مغفرة وآخره عتق من النار” 4. فحري بمن سمع هذا الحديث أن يجد ويبذل الوسع في هذه الأيام طلبا لفكاك رقبته من النار فكم لله في هذا الشهر من عتقاء كانوا في رق الذنوب وذل المعصية إلى حرية العبودية وعز الطاعة، فعسى أسير الأوزار يطلق ومن وجبت له النار يعتق.

– العفو والعافية

سأل العباس بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة أَن يرشده إلى شيء يدعو الله به، فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم في كل مرة بقوله: “سل الله العفو والعافية” 5.

لما كان العفو والعافية من أتم نعم الله تعالى على عباده من حازها حيزت له الدنيا بحذافيرها، علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نلح في هذه العشر على طلب العفو والعافية. فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: “يا رسول الله! أرأيت إِن أدركت ليلة القدر، فبم أدعو؟ قال: “قولي: اللهم إِنك عفو تحب العفو، فاعف عنّي”” 6.

والعفو أشمل من المغفرة، فقد قيل إن المغفرة ألا تعاقب على الذنب، أما العفو أن يُمحى هذا الذنب من صفحة نفسك ومن ذاكرتك كأنك لم تذنب. وقد بين الحافظ ابن رجب الحكمة من طلب العفو في هذه الليلة في قوله: (وإنما أمر بسؤال العفو في ليلة القدر -بعد الاجتهاد في الأعمال فيها وفي ليالي العشر- لأن العارفين يجتهدون في الأعمال، ثم لا يرون لأنفسهم عملًا صالحًا ولا حالًا ولا مقالًا، فيرجعون إلى سؤال العفو، كحال المذنب المقصر) 7.

– إحياء الليل

كان رسول الله إذا دخل العشر الأواخر أحيى ليله وأيقظ أهله، وفي كلمة “إحياء” معاني سريان الروح وبعث الحياة في ليل يجعله الغافلون نوما وسباتا. قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم 8. فمن أراد أن يحيي الله قلبه فليبث الحياة في هذه الليالي المباركات بكل أنواع القربات من ذكر ودعاء وقيام واستغفار بالأسحار وتعجيل للسحور وتلاوة القرآن الذي جعله الله روحا ونورا، قال تعالى: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا 9. فاللهم أحي قلوبنا من مواتها واجعل لنا نورا نمشي به في الناس.

– الاعتكاف

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في المسجد في العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل واعتكف أزواجه من بعده؛ قال الزهري رحمه الله: (عجبا للمسلمين! تركوا الاعتكاف، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم، ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل). إن في الاعتكاف (الذي يجري في البيوت بسبب الحجر الصحي) من الأسرار والحكم الشيء الكثير، ذلك أن المدار في الأعمال على القلب، وأكثر ما يفسد القلب تلك المشوشات والشواغل التي تصرفه عن الإقبال على الله عز وجل من شهوات الطعام، والشراب، والنكاح، وفضول الكلام والنوم، وغير ذلك من الصوارف التي تفرق أمر القلب، وتفسد جمعيته على الحق سبحانه، فسن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة الاعتكاف حتى يتحصن القلب من غائلة تلك الصوارف، ما يجعله مؤهلا لتلقي أنوار السماء متعرضا لنفحات العشر المباركات عسى تصيبه نفحة فلا يشقى بعدها أبدا.

– ليلة القدر

قال الحق سبحانه: إِنَّا أَنزلناه في ليلة القدرِ. وما أَدراك ما ليلة القدرِ. ليلة القدرِ خير من أَلف شهرٍ. تنزل الملائكة والروح فيها بإِذن ربِهِم من كلِ أَمرٍ. سلام هي حتَى مطلع الفجرِ 10. من أعظم كنوز هذا الشهر المبارك هذه الليلة الشريفة التي يتسابق للظفر بها الصائمون ويتنافس في التنقيب عنها القائمون. ندبنا رسول صلى الله عليه وسلم أن نلتمسها في العشر الأواخر، من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، فهي ليلة القدر وليلة الشأن وليلة السلام وليلة التقدير وليلة نزول القرآن وليلة تتنزل فيها الملائكة، العمل فيها خير من العمل في ألف شهر من حرمها فقد حرم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرِمها فقد حُرِم الخير كله، ولا يُحرم خيرها إلا محروم” 11.

كنز الكنوز

قال تعالى: ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم 12.

في سياق الحديث عن الصيام ومقاصده وأحكامه تأتي تلك الآية المباركة تخبرنا أن ربنا عز وجل قريب مجيب يعطي من سأله. ترى هل هي مجرد جملة اعتراضية كما يقرر ذلك النحويون حيث جاءت في خضم آيات الصيام؟ أم أن ورودها في ثنايا الحديث عن شهر رمضان يبين أن المؤمن في هذا الشهر يتهيأ قلبه بشتى أنواع الطاعات والقربات لترقى مطالبه المتعددة المتفرقة من ربه المجيب إلى طلب أعز ما يطلب؟ القرب من الله ومحبته والشوق إليه. فإذا كانت ليلة القدر خير من ألف شهر تتنزل فيها الملائكة ففي كل ليلة ينزل ربنا عز وجل يتودد إلى عباده هل من محب مشتاق كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث: “ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقي ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له، حتى ينفجر الفجر” 13.

فهذه عطايا ربانية دائمة يغنمها الموفقون حين يستجيبون لنداء ربهم عز وجل في الثلث الأخير من الليل يتعرضون لرحماته ويسألونه منازل القرب، عسى أن يمن عليهم بإقبال لا إدبار بعده أبدا ورضوان لا سخط بعده. فأعظم كنز يظفر به المؤمن في هذه العشر الأواخر من رمضان هو أن يسأل الله تعالى أن ينقدح في قلبه الهم والعزم على العكوف على باب المولى عز وجل في كل الليالي حين يبقى من الليل ثلثه الآخر سائلا المولى عزو جل أن يجعله من أحبابه ومن أهل ولايته وخاصته.


[1] رواه مسلم.
[2] آل عمران، 185.
[3] رواه أحمد.
[4] أخرجه ابن عساكر.
[5] رواه الترمذي.
[6] رواه ابن ماجة والترمذي.
[7] لطائف المعارف، ص. 206.
[8] الأنفال، 24.
[9] الشورى 52.
[10] سورة القدر.
[11] رواه ابن ماجه.
[12] البقرة، 186.
[13] رواه البخاري.