محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الشوق والذوق

Cover Image for محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الشوق والذوق
نشر بتاريخ

توطئة:

من أعظم النعم التي من الله تعالى بها على البشرية بعثة الرسول الأكرم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فهو نعمة ممتدة في الزمان والمكان؛ فكان بشارة يبشر بها الأنبياء والرسل السابقون عليهم السلام أقوامهم، يدعونهم من خلالها إلى ترقب بعثته والإيمان به ومحبته ونصرته، وفي ذلك يقول الله تعالى: وَإِذَ اَخَذَ اَ۬للَّهُ مِيثَٰقَ اَ۬لنَّبِيٓـِٕۧنَ لَمَآ ءَاتَيْنَٰكُم مِّن كِتَٰبٖ وَحِكْمَةٖ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٞ مُّصَدِّقٞ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُومِنُنَّ بِهِۦ وَلَتَنصُرُنَّهُۥۖ ، قَالَ ءَآقْرَرْتُمْ وَأَخَذتُّمْ عَلَيٰ ذَٰلِكُمُۥٓ إِصْرِےۖ قَالُوٓاْ أَقْرَرْنَاۖ قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ اَ۬لشَّٰهِدِينَ[سورة آل عمران:80].

وروي “أن نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك؟ قال: نعم، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى” 1.

وفي ذات المعنى يقول صاحب “أعلام النبوة”: “وقد ‌تقدمت ‌بشائر ‌مَن ‌سلف ‌من ‌الأنبياء بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، مما هو حجة على أممهم، ومعجزة تدل على صدقه عند غيرهم، بما أطلعه الله تعالى على غيبه، ليكون عونا للرسل وحثا على القبول… فهذه من بشائر الأنبياء عن الكتب الإلهية المتناصرة بصحة نبوته، المتواترة الأخبار بانتشار دعوته وتأييد شريعته، ولعل ما لم يصل إلينا منها أكثر، فمنهم من عينه باسمه، ومنهم من ذكره بصفته، ومنهم مَنْ عزاه إلى قومه، ومنهم مَنْ أضافه إلى بلده، ومنهم مَنْ خصَّه بأفعاله، ومنهم مَنْ ميّزه بظهوره وانتشاره، وقد حققها الله تعالى جميعها فيه، حتى صار جلياً بعد الاحتمال، ويقينا بعد الارتياب” 2.

نعم، لقد صار صلى الله عليه وسلم جليا بعد الاحتمال ويقينا بعد الارتياب، هذا عن ذاته الشريفة وبعثته المنيفة ورسالته الحصيفة، لكن ماذا عن محبته؟ وما حقيقتها ومراتبها؟ وكيف السبيل إلى الانتقال فيها من احتمال الأشواق إلى جلاء الأذواق ومن ارتياب الاتباع إلى يقين الانصياع؟

1.   حقيقة محبة المصطفى صلى الله عليه وسلم ومراتبها:

يمكن القول ـ قياسا على تعريف علمائنا للإيمان بأنه: تَصْدِيقٌ بِالْجَنَانِ، وَإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالْأَرْكَان ِـ أن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم:

توقير وتعظيم بالجنان واستكثار من الصلاة والسلام عليه باللسان واتباع وتمثل واستنان:

أ‌.       التوقير والتعظيم:

يقول الله تعالى: اِنَّآ أَرْسَلْنَٰكَ شَٰهِداٗ وَمُبَشِّراٗ وَنَذِيراٗ، لِّتُومِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُۖ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةٗ وَأَصِيلاًۖ [سورة الفتح: 8ـ9].

ما من مسلم إلا وتجد لديه قدرا من تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوقيره؛ ومن مظاهر التعظيم الشائعة في الأمة تسمية الأبناء والأحفاد باسم (محمد)، فتجد في بعض مناطق المغرب الجد والأب والابن على اسم الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، وتجد الإخوة الثلاثة “محمدين” لا يميز بينهم إلا بإضافة صفات “البكر والأوسط والأصغر”، ومن مظاهر التوقير والمحبة تعظيم آل بيته وذريته مهما كان النسب مترامي الأطراف في التاريخ، فتجد المتميزين بالنسب النبوي في العديد من قرى المغرب ومدنه حائزين على نصيب من التقدير والاحترام، كما تجدر الإشارة إلى أن تعظيم من يدعي نسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان سببا في قيام حركات سياسية وتأسيس دول عريقة.

والتعظيم والتوقير دين يرتقي المؤمن في درجات سلمه ليصل إلى الحقيقة التي تذوقها صحابة رسول الله الكرام ومن تبعهم بإحسان، فكان عندهم رضي الله عنهم “من المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغ بهم أن يفتدوه بالمهج، ومن التعظيم والهيبة لذلك الجناب ما يُخرس الألسن ويغض الأبصار ويُطوِّق الأنفس بِحَرَس من جلاله صلى الله عليه وسلم وجماله. إنه رسول الله! وكفى”. 3

والأخبار في محبة الصحابة الكرام لرسول الله صلى الله عليه لا حصر لها، نكتفي منها بما شهد به عروة بن مسعود لما أرسله قومه مفاوضا للنبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية فرجع إليهم قائلا: ” أَيْ قَوْمِ، ‌وَاللهِ ‌لَقَدْ ‌وَفَدْتُ ‌عَلَى ‌الْمُلُوكِ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمَّدًا، وَاللهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا” 4.

وقد تشرب التابعون هذه المحبة وهذا التوقير من الصحابة فكانوا مثالا يحتذى لمن بعدهم؛ ذكر القاضي عياض رحمه الله في “الشفاء” أن مَالكاً رحمه الله “سئل عن أيوب السَّختِياني فقال: ما حدثتكم عن أحدٍ إلا وأيوب أفضل منه. قال: وحج حجتين، فكنت أرمُقه فلا أسمع منه غير أنه إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى أرحمه).

وقال مصعب بن عبد الله: كان مالك إذا ذكر النبي ﷺ يتغير لونه وينحني حتى يصعُب ذلك على جلسائه؛ فقيل له يوما في ذلك، فقال: لو رأيتم ما رأيتُ لما أنكرتم عليَّ ما ترون؛

ولقد كنت أرى محمد بن المنكدر، -وكان سيد القراء- لا نكاد نَسأله عن حديث أبدا إلا يبكي حتى نرحمَه.

ولقد كنت أرى جعفر بن محمد الصادق (وهو الإمام جعفر الصادق من آل البيت)، وكان كثير الدُّعَابَة والتبسم، فإذا ذكر عنده النبي ﷺ اصفر، وما رأيته يحدث عن رسول الله ﷺ إلا على طهَارة.

ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي ﷺ فيُنظَر إلى لونه كأنه نَزَفَ منه الدم، وقد جفَّ لسانه في فمه هيبة منه لرسول الله ﷺ.

ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير، فإذا ذُكر عنده النبي ﷺ بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع.

ولقد رأيت الزُّهري، وكان مِنْ أهْنَإ الناس وأقربِهم، فإذا ذكر عنده النبي ﷺ فكأنه ما عرفَك ولا عرفته.

ولقد كنت آتي صفوان بن سُلَيم، وكان من المتعبدين المجتهدين؛ فإذا ذكر النبي ﷺ بكى، فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه ويتركوه” 5.

إنها منارات موجهة لمن كان يروم التحقق من حقيقة المحبة والتعظيم، وتذوق حلاوتهما وسلوك سبيل الاقتداء والاهتداء.

ب‌.   الاستكثار من الصلاة والتسليم:

الصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ من أعظم القربات، وأفضل الطاعات، فمَن تمسّك بها فاز بالحسن والحسنات في الدنيا والآخرة، وهي مفتاح محبة الرسول الأكرم والقرب منه ونيل شفاعته؛ لذلك جاء الأمر من الله تعالى بالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنص الكتاب والسنة، فأما الكتاب؛ فقوله تعالى: اِنَّ اَ۬للَّهَ وَمَلَٰٓئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَي اَ۬لنَّبِےٓءِۖ يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماًۖ [سورة الأحزاب: 56].

ولا تجد مسلما محبا لا يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، غير أن الناس في هذا الشأن بين مقل ومكثر، والمطلوب الانتقال من مرتبة التبرك بالصلاة على الحبيب المصطفى الشائعة بين المسلمين في شؤون دينهم ودنياهم؛ من زواج وبناء وبيع وشراء واستشفاء إلى مرتبة التعبد والمحبة المقتضية للإكثار الذي لا حدود له.

وقد جاءت الأحاديث النبوية حاضَّة على الإكثار من الصلاة على النبي صلى اللهُ عليه وسلم؛ فعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْكَ، فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلَاتِي؟ قَالَ: “مَا شِئْتَ”، قلت: الرُّبُعَ؟ قَالَ: “مَا شِئْتَ، فإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لك”، قلت النِّصْفَ؟ قَالَ: “مَا شِئْتَ، وَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ”، قلت فالثُّلُثَيْنِ؟ قَالَ: “مَا شِئْتَ، فإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لك”، قلت: أَجْعَلُ لَكَ صَلَاتِي كُلَّهَا؟ قَالَ: “إِذًا تُكْفَى هَمّكَ، وَيُغْفَرُ ذَنْبُكَ” 6، وفي رواية قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إِذَنْ يَكْفِيكَ اللهُ مَا أَهَمَّكَ مِنْ دُنْيَاكَ وَآخِرَتِكَ” 7.

وروى مسلم وأصحاب السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا.” 8

وصلاة الله على عبده مغفرة لذنوبه وتفريج لكربه وتنوير لقلبه وقضاء لحاجاته، يقول الله تعالى: هُوَ اَ۬لذِے يُصَلِّے عَلَيْكُمْ وَمَلَٰٓئِكَتُهُۥ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ اَ۬لظُّلُمَٰتِ إِلَي اَ۬لنُّورِۖ وَكَانَ بِالْمُومِنِينَ رَحِيماٗۖ[الأحزاب: 43].

ت‌.  الاتباع والتمثل والاستنان:

وفي الاتباع والتمثل يتوزع الناس شيعا ويصطفون تباعا، فمنهم ظالم لنفسه ومنهم متشوق لم تسعفه عزيمته ومنهم سابق بالخيرات.

يقول الله تعالىقُلِ اِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اَ۬للَّهَ فَاتَّبِعُونِے يُحْبِبْكُمُ اُ۬للَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْۖ وَاللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞۖ[آل عمران: 31]، إننا ونحن نتلمس حقيقة الاتباع والتأسي لفي أمس الحاجة إلى التذكير ببعدين من أبعاده؛ بُعد العمق وبُعد السَّعة.

– عمق الاتباع:  ويتجلى في جعل المحبة باعثه وحاديه وغايته، يجلي هذا البعد ويبرزه مثيلات الآية القرآنية السابقة والعديد من الأحاديث الشريفة مثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله قال: ‌من ‌عادى ‌لي ‌وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته.” 9

“لم تَكن دلالة الرسول ﷺ ودلالة إخوانه من قبله من النبيئين مجردَ تبليغ، وإن كان التبليغ ركنا من أركان الدلالة، وإنما كانت مُعَايشةً وسياسة وتلَطُّفا وخفضَ جناحٍ وقيادةً آلت إلى اتباع وإيمان، ورفع الاتباع إلى محبة الشخص الرسول، ورفعت محبة الرسول إلى محبة الله، وأوجبت محبة الله عبده المتقرب بالفرض والنفل، ومن الفرض الآكد اتباع الرسول وحبه، مراتب الاصطفاء والفلاح.” 10

وفي تعليق جميل على قولة الإمام الرفاعي القائلة: “مفتاح السعادة الأبدية الاقتداء برسول الله ﷺ في جميع مصادره وموارده وهيئته وأكله وشربه وقعوده وقيامه ونومه وكلامه، حتى يصح لك الاتباع المطلق”، يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: “خلاف بعض الناس للناس وَسِباقُهم إلى دعوى الاعتصام بالكتاب والسنة يُخفي هوى حب الرئاسات، و«يعتصم» هذا وذاك من الوراقين بفهمه هو، وبقصده هو، وخُطته هو، وإمكانياته هو، واعتقاده هو في عبقرية نفسه، وعصمة مدرسته، وتحقيق نصوصه، ينسب ذلك كله إلى السنة والكتاب، كل من خالف مجموعه الفريدَ النضيدَ خطأٌ وبدعة وضلال. ما نتكلم مع أمثال الخالية قلوبهم من ذكر الله، ومن محبة الله ورسوله، تلك المحبة التي يصدر عنها ويرد إليها الأكابر الأولياء.” 11

إن فصل ركن الاتباع عن ركن المحبة يحوله إلى طقوس باطنها فيها النفس والهوى والمخالفة وظاهرها فيها الكتاب والسنة.

– سَعة الاتباع: وتتجلى في الاتباع الكامل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، في السلوك الفردي والجماعي، الخاص والعام، النفسي والخلقي واليومي، العبادي والاجتماعي، السياسي والاقتصادي.

“ما هو الاتباع الكامل للسنة؟ ما هو الطريق الذي أناره القرآن؟ ما هو الصراط المستقيم الذي ندعو الله في صلاتنا أن يهدينا إليه لنكون مع الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين؟

هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صوفيا يلزم الزاوية وينفِضُ يديه من الدنيا وتبعاتها؟ كلا وإنما كان وأصحابه والصحابيات الجليلات في جهاد مستمر، ومواجهة للكفر على كل المستويات مدَى عصر النبوة والخلافة الراشدة.” 12

فالاتباع إذن سلوك باعثه همّان مندمجان، هم فردي غايته الإعداد للمصير الأخروي والمكانة عند الله ومقعد الصدق عنده سبحانه، وهم جماعي غايته الإعداد لسعادة الأمة وصلاحها وعزتها في الدنيا وفلاحها في الآخرة.

2.   سبيل المحبة:

 سؤال الكيف من أهم الأسئلة في قضايا التغيير الفردي والجماعي، وفي أحايين كثيرة، بدل أن ندل على المنهاج الواضح المنير المسهل لسلوك السبيل نحو الغايات المرجوة، نساهم في عقد الدوائر المغلقة التي تساهم في مراوحة الأمكنة وعدم القصد في السير.

من أمثلة ذلك ما تجده مبثوثا في كتب الفكر والدعوة من أن على الطالب لمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجتهد في محبته وأن يطيع أوامره ونواهيه وأن يكثر من الطاعات والعبادات وأن يجاهد في سبيل الله وأن وأن…

كل هذه المطالب عالية وغالية وسامية، لكن كيف السبيل إليها وإرادتي متقاعسة ونفسي في الحضيض، لا زاد لها غير الشوق إلى الحبيب صلى الله عليه وسلم، دُلني على مفتاح باب المحبة أولا ثم بعدها تأتي الدلالة على أركانها ودرجاتها ومعالمها.   

لقد سبقت معنا نُقول للإمام القاضي عياض رحمه الله عن الإمام مالك، تكتنز بإشارات موفقة سديدة لمفتاح محبة الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم.

ما بلغ الإمام مالك رحمه الله مبلغه من المحبة العظيمة والتوقير الشديد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالاعتماد على طلب العلم فقط، أو بمجاهدة نفسه فقط، وإنما قبل كل ذلك ومعه بصحبة الصالحين ممن تشربوا المحبة من قلوب الصحب الكرام، يؤكد ذلك رحمه الله بقوله:

· لو رأيتم ما رأيتُ لما أنكرتم عليَّ ما ترون؛

· فكنت أرمُقه فلا أسمع منه غير أنه إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى أرحمه.

· ولقد كنت أرى محمد بن المنكدر…

· ولقد كنت أرى جعفر بن محمد الصادق…

· ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي ﷺ فيُنظَر إلى لونه كأنه نَزَفَ منه الدم…

· ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير…

· ولقد رأيت الزُّهري…

· ولقد كنت آتي صفوان بن سُلَيم…

رؤية المحبين وصحبتهم وخلتهم مفتاح محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، لا سيما الكمل منهم، لأن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم دين، و”المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل.” 13

“أمر إلهي أسَّس المسيرة: قُلِ اِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اَ۬للَّهَ فَاتَّبِعُونِے يُحْبِبْكُمُ اُ۬للَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْۖ وَاللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞۖ[آل عمران: 31.]، وخبر إلهي قدسي أخبر بمراحلها: “وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه”. ولم تنقطع المسيرة ولم تُرفَع في فضاء الروحانية والشوق إلى زمان مضى وانقضى، بل حافظَ على شروطها الحُبِّية الواصلة بين العباد والله سنة الحب في الله، وفضيلة الصحبة في الله، ووجود أولياء الله إخوان رسول الله في أرض الله.” 14.

ولم يكن مستغربا أن يفرح الصحابة الكرام ذلك الفرح الاستثنائي الذي ما بعده فرح ببشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ولنا في قوله: “المرء مع من أحب” 15، فالمحبة والاتباع يُلحقان المرء بمحبوبه وينيلانه معيته.

مفتاح محبة الرسول صلى الله عليه وسلم إذن صحبة ومحبة المحبين المحبوبين من إخوان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين ود رؤيتهم، والإكثار من الصلاة والتسليم عليه سقياها، وتعظيمه وتوقيره واتباعه في دق الأمر وجله زادها وغناها.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


[1] المستدرك على الصحيحين، أبو عبد الله الحاكم، ت: مصطفى عبد القادر عطا، (دار الكتب العلمية – بيروت، ط1 ـ  1411)، ج2 رقم 3566.
[2] أعلام النبوة، أبو الحسن الماوردي (دار ومكتبة الهلال – بيروت، ط1 – 1409)، ص149 ـ 158.
[3] الإحسان، عبد السلام ياسين، ج1 ص153.
[4] صحيح البخاري، أبو عبد الله البخاري، (الطبعة السلطانية – مصر، 1311)، ج3 رقم2731.
[5] hلشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض، (دار الفكرـ 1988)، ص41ـ43.
[6] سنن الترمذي، محمد بن عيسى الترمذي، ت: أحمد شاكر، (مكتبة الحلبي، مصر، ط 2 ـ 1975)، رقم 2457.
[7] مسند الإمام أحمد، أحمد بن حنبل، ت: الأرنؤوط، (مؤسسة الرسالة، ط1 ـ 2001)، رقم 21242.
[8] صحيح مسلم، الإمام مسلم، ت: محمد فؤاد عبد الباقي، (مطبعة الحلبي، القاهرة ـ 1955)، ج1 رقم 384.
[9] صحيح البخاري، أبو عبد الله البخاري، ج 5 رقم 6137.
[10] الإحسان، عبد السلام ياسين، ج1 ص166.
[11] نفسه، ج1 ص284.
[12] تنوير المؤمنات، عبد السلام ياسين، ج1 ص251.
[13] مسند الإمام أحمد، ج14 رقم 8417.
[14] الإحسان، عبد السلام ياسين، ج1 ص166.
[15] مسند الإمام أحمد، ج6 رقم 3718.