محورية المرأة في التغيير

Cover Image for محورية المرأة في التغيير
نشر بتاريخ

مقدمة

من نافلة القول التذكير بقيمة موضوع المرأة في التغيير، حيث تكاد تجمع اليوم مختلف وجهات النظر حول أهمية حضور المرأة في المجتمع، ومشاركتها الفعالة في خدمة أهدافه على اختلاف مجالاتها التربوية والعلمية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

بل إن هذه المشاركة تعتبر مؤشرا واضحا على تطور المجتمع، ومقياسا أساسيا على وعيه وتحضره. ذلك أن مهمات التغيير وبناء الحضارات تحتاج إلى تظافر جهود جميع فئات المجتمع، دون تمييز بين الرجال والنساء.

على هذا الأساس، حظيت المرأة المؤمنة بمستوى كبير من العناية والتكريم في نصوص الكتاب والسنة وتطبيقاتهما في مجتمع النبوة والخلافة الراشدة، حيث كانت مشاركة وفاعلة في القيام بالمسؤوليات التي خصها الله بها، جنبا إلى جنب مع أخيها الرجل بمقتضى الولاية التي تجمع بين المؤمنين والمؤمنات. وتؤكد على التكامل التام بينهم في كل مجالات التعاون المشتركة، مصداقا لقول الله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (التوبة، 72).

لكن على الرغم من تقرير هذه الحقيقة في أصول الشريعة وعند أصحاب العقول الراجحة، فإن أثرها على أرض الواقع، شابه وما يزال يشوبه كثير من مظاهر الضعف والقصور، التي تنقلها صور تهميش المرأة في فترات طويلة من تاريخها، في مجتمعات العض والجبر نتيجة فساد نظام الحكم، مما كلف الأمة هدرا كبيرا في وجودها الحضاري.

لذلك تجدنا دائما في حاجة إلى التذكير بسمو المبادئ والقيم الإسلامية المؤسسة لمكانة المرأة في المجتمع، والتأكيد على وظيفتها المحورية في عملية التغيير والبناء. وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل عن حدود هذه الوظيفة ومقوماتها لتدبير هذا التغيير.

في هذه الورقة سنحاول تركيز الإجابة عن هذا السؤال، من خلال محورين أساسيين، بعد أن نمهد لهما بمقدمة منهاجية في فقه التغيير.

أولهما- حدود الوظيفة التغييرية.

ثانيهما- المقومات الذاتية لتدبير عملية التغيير.

أولا- مقدمة منهاجية في فقه التغيير

التغيير مثلما هو معلوم سنة إلهية أجرى الله على أساسها نظام الكون وتدبير الخلق. وقانون التغيير الإسلامي له فقه ومنهاج دلت عليهما نصوص القرآن الكريم في مثل قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ (الرعد، 11)، ووضحت نموذجهما الخالد السيرة النبوية الشريفة.

من هذه الحقيقة انطلق الإمام المرشد عبد السلام ياسين رحمه الله في استنباط فقه التغيير الإسلامي ومنهاجه، معتبرا أن التغيير المنشود ليس فقط تغييرا جزئيا هامشيا في بُنى المجتمع، وهياكل الاقتصاد ونظم السياسة، على أهمية هذه المرتكزات؛ إنما المقصود ذاك التغيير الكلي الجذري الجوهري العميق والشامل، الذي يبدأ بتربية الإنسان وتعليمه في دفء صحبة ربانية وفي حضن جماعة منظمة بانية، بعثا لإرادته بتصفية رؤيته لنفسه ومصيره وللعالم، وتحريرا لعقله ببث روح الإيمان بالغيب، حتى يصبح إنسانا فاعلا ومؤثرا فيما حوله.

على هذا الأساس يؤكد رحمه الله على أهمية “العامل البشري والكفاءة البشرية ونزاهة الرجال والنساء ونياتهم الحسنة كعوامل حاسمة في التغيير” (1)، ويركز في سياق ذلك على مكانة المرأة المؤمنة، ويبوؤها مرتبة الصدارة في مسلسل التغيير والإصلاح، باعتبارها “عماد الأمة، لأن صلاحها في نفسها وتأثيرها في الوسط الاجتماعي ابتداء من بيتها هو صلاح الأمة” (2).

فما هي حدود الوظيفة التغييرية للمرأة؟

ثانيا- حدود الوظيفة التغييرية للمرأة

إن القول بمحورية المرأة في التغيير يدل على أنها قطب الرحى الذي تدور حوله دواليبه. فإذا تعطل عن أداء وظيفته، توقفت بسببه منظومة التغيير بكاملها. “وهذا قول ليس فيه أية مبالغة – كما يشير الإمام المرشد رحمه الله – لأنها حافظة الغيب، حافظة الفطرة والأسرة التي يتآمر عليها إبليس وحزبه جميعا. فهي وحدها إذن كفاء لهم” (3).

وعليه فإن تحرك عجلة التغيير مرهون إلى حد بعيد بفعالية المرأة وكفاءتها وحفظها لوظيفتها الفطرية، ومرتبط أيضا بإنصافها وتمكينها من فرص المشاركة في القرار.

ثلاث محددات إذن، تمثل أبعاد الوظيفة التغييرية: الوظيفة الفطرية، وظيفة المشاركة في التنمية ثم وظيفة المشاركة في صنع القرار.

1- الوظيفة الفطرية

إذا كان صنع تاريخ الإسلام، مسألة أجيال، وقوة أجيال، وكفاءة أجيال، وإيمان أجيال، وتربية أجيال، فمن يربي هذه الأجيال، من يحفظ فطرتها، من يمدها بالمنعة ضد الامتداد السـرطاني للثقافة الدوابية، إن استقالت المرأة عن وظيفة الأمومة التي شرفها الله بها؟

من سنة الله في خلقه، أن “جعل الله عز وجل حبلَ الفطرة ممتدا عبرَ الأجيال عن طريق الأمومة” (4). بمقتضى هذه السنة الإلهية واستشعارا لإرادة الله فيها، يؤكد الإمام المرشد عبد السلام ياسين رحمه الله أن “مستقبل الإسلام تصنعه الأم المؤمنة من موقعها التاريخي حيث وضعتها القدرة الإلهية” (5)، تنبعث من برجها الاستراتيجي، تحفظ دين أسرتها، وتحفظ عقول ناشئتها، لأنها أول ما تتعلق به الفِطَر البريئة، ترضع منها إلى جانب مادة بناء الأجسام، مادة العلم والإيمان التي تغذي وتحصن العقل الناشئ وتبعث في روحه نور الهداية، وله من قُدوة الأم وكلماتها البسيطة وإخبارها بحقائق وجود الله تعالى وخبر الآخرة زادٌ منه يستفيض عُمْرَه.

 في الحديث: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء)، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: فِطْرَتَ اَ۬للَّهِ اِ۬لتِے فَطَرَ اَ۬لنَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اِ۬للَّهِۖ ذَٰلِكَ اَ۬لدِّينُ اُ۬لْقَيِّمُ) (الروم، من الآية 29). ((صحيح البخاري، 1358)).

وبما أن الرهان هو مصير أجيال الأمة، وحفظ فطرتها في أسرة متماسكة هي الوظيفة الفطرية الجليلة والأساسية للمرأة، فإن “كسب الأمهات إلى صف الإيمان هو المعركة الحاسمة” (6).

بيد إنه على الرغم مما تقرر من وظائف الأمومة، فإن البعض ما زال يصر على أن قيام الأم بهذه الوظيفة يتعارض مع قيامها بمسؤولياتها خارج البيت، ومشاركتها في تنمية نفسها وأسرتها ومجتمعها.

2- وظيفة المشاركة في التنمية

لم تنفك منظمة الأمم المتحدة (7) منذ تأسيسها تؤكد في إعلاناتها ومؤتمراتها على تمكين المرأة من الوسائل والفرص الضرورية للنهوض بها وضمان مشاركتها الفعالة في خدمة أهداف التنمية. حيث جاء في المادة 13 من إعلان مؤتمر المرأة ببكين سنة 1995: “إن تمكين المرأة ومشاركتها الكاملة على قدم المساواة في جميع جوانب حياة المجتمع بما في ذلك المشاركة في عملية صنع القرار وبلوغ مواقع السلطة، أمور أساسية لتحقيق المساواة والتنمية والسلم” (8). تلخص مثل هذه النصوص المؤشرات الذي يتم على أساسها قياس مستوى مشاركة المرأة في التنمية، والفرص المتاحة أمامها من أجل إبراز قدراتها في صناعة القرارات السياسية والاقتصادية والتحكم في الموارد المالية، كل ذلك بموازاة مع تحقيق مبدأ المساواة مع الرجل.

لكن إذا كانت هذه النداءات الأممية تنطلق من فلسفة مادية قاصرة عن فهم رسالة الإنسان في الدنيا، وغافلة عن مصيره في الآخرة، فإن مسؤولية المرأة المسلمة نابعة من رسالتها الاستخلافية ووظيفتها الفطرية، وفق ما سخر الله لها من إمكانات مادية ومعنوية، وما رسم لها من قيم وضوابط شرعية. وتعتبر هذه المسألة منطلقا أساسيا يحدد مسار التنمية التي يقصدها فقه التجديد المنهاجي، حيث لا يمكن أن توظف الإمكانات الذاتية للمرأة خارج دائرة الوظائف الفطرية والشرعية التي خصها الله عزوجل وشرفها بها.

من خلال استحضار حكمة الشرع والاستبصار بها تتحدد وظائف الرجل والمرأة ومسؤولياتهما. روى الشيخان والترمذي وأبو داود عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته. فالإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله، وهو مسؤول عن رعيته. والمرأة راعية في بيت زوجها، وهي مسؤولة عن رعيتها. والخادم في مال سيده راع، وهو مسؤول عن رعيته». قال: فسمعت هؤلاء من النبي صلى الله عليه وسلم. وأحسِب النبي صلى الله عليه وسلم قال: “والرجل في مال أبيه راعٍ ومسؤول عن رعيته، فكلكم راعٍ وكلُّكم مسؤول عن رعيته” (9).

يعلق الإمام المرشد رحمه الله على هذا الحديث العظيم في سياق نقاشه مع الفقيه الذي اتخذ منه حجة لحبس المرأة وحصر عملها في البيت، يقول: “هل نسخت مسؤولية المرأة في البيت مسؤوليتها خارجه؟ مسؤوليتها في البيت سنة قرأناها، ومسؤوليتها خارجه قرآن نقرأهُ في قول الله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة، 72]” (10).

لا جدال إذن في ضرورة مشاركة المرأة في الحياة الاجتماعية والعلمية والسياسية والاقتصادية، كما كانت الصحابيات يشاركن رضي الله عنهن. لكن تاريخ المرأة مثقل بآثار عصور الانحطاط، وواقعها اليوم مشحون بمؤثرات الحملات التغريبية وفلسفاتها التخريبية. فالسؤال الجوهري المطروح على فقه التجديد في ظل هذا الوضع، هو كيف تستطيع المرأة أن تضطلع “بما يكلفها به نداء الضرورات الكسبية، وما يدعوها إليه نداء سعادتها الأخروية” (11).

ينطلق الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله في تحليله لهذه القضية من أن “خروج المرأة للكسب خارج البيت جاء نتيجة ردة فعل وليس ضمن خطة مجتمعية متكاملة. تتحكم فيها عند الفئة المستضعفة الضرورة والاضطرار بسبب إهمال المجتمع للمرأة وظلمه لها، وعند الفئة المغربة الرغبة في تقليد ومجاراة المجتمعات الغربية المصنعة الصاخبة والموضات المنحلة” (12). ويحذر تبعا لذلك من النتائج العكسية المتمثلة في تفكك الأسرة، وضياع مجتمع المسلمين، بسبب امتهان وظائف تستهلك المرأة في غير ما خلقت له، وتشغلها عن وظيفتها الفطرية الجليلة (13).

على هذا الإساس، يدعو الإمام إلى نصرة المرأة وصون كرامتها وإنصافها من الظلم بضمان كفايتها المادية ضمن الحقوق المكفولة لها عند مؤسسات الدولة، وعند ذوي الرحم والقربى. وتكليف من خرجت للعمل لضرورة كسبية أو حاجة مجتمعية بوظائف تلائم خصوصيتها الفيزيولوجية والنفسية، وتراعي مسؤوليتها الأساسية في البيت، ولا تتنافى مع الحشمة والأخلاق والعفة والتقوى، مثل “وظائف التعليم بمراحله لبنات جنسها، والتطبيب لهن، وسائر الأنشطة الاجتماعية، وغيرها” (14).

3- وظيفة المشاركة في صنع القرار

إن العلاقة بين الرجل والمرأة تقوم في نظام الإسلام على المساواة في أصل الخلق والتكوين، والتكامل في الوظائف والمسؤوليات. وإن مسألة الأفضلية بينهما لا تتحدد إلا على أساس التقوى والكفاءة والعمل الصالح. وهو ما تقرره النصوص الشرعية، مصداقا لقول الحق سبحانه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (النحل، 97)، وقوله سبحانه أيضا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات، 13).

يعلق الإمام المجدد رحمه الله على هذه المسألة بالقول: “في آيات معدودة يذكر الله عز وجل المؤمنات مع المؤمنين تأكيدا لمعنىً يُخشى أن يسبق لفهم الرجل المعتز بذكورته أن المرأة منقوصة الحظ منه. وإلا فكل خطاب للمؤمنين، تشريفا وتكليفا، فالمؤمنات في ضِمْن قصده، جريا على قاعدة العرب في لغتهم إذ يغلِّبُون الإخبار بالمذكر إذا كان المخاطبون رجالا ونساء” (15).

لكن الإمام إلى جانب تأكيده على أن مسألة الكفاءة والأمانة تظل هي العناصر الحاسمة في معادلة التفاضل بين الرجل والمرأة، وأن “نزاهة الرجال والنساء ونياتهم الحسنة هي العوامل الحاسمة في التنمية والتكافل” (16)، فإنه ينظر إلى هذه المسألة من منطلق الاستبصار بحكمة الله في اختصاص المرأة بعاطفة الأمومة والحس المرهف، ليخلص إلى تكامل خصوصيتها مع خصوصية الرجل في كل أمور الحياة من أجل حسم عملية التغيير، ويؤكد تبعا لذلك على أنه “لا بد من مساهمة المرأة في القرار الرجالي، إذ لا يمكن أن نعوض إحساسها المرهف وحبها الأمومي الحاسمان في عملية التغيير لكي يتحقق ‘تداول الأيام'” (17).

على هذا الأساس فإن المعنى الإنساني والحضاري لنصرة المرأة وإنصافها وإبراز دورها في التغيير والتنمية، لا يتحقق إلا بتنزيل هذه المبادئ السامية على أرض الواقع، من خلال تمكينها من فرص المشاركة في صنع القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإبراز طاقاتها في التحكم في مواردها المالية. لأنه لا يعوض المؤمنات في جهاد التنمية لتحرير مثيلاتهن ممن تخلفت بهن الأسباب، غيرهن، يقول الإمام رحمه الله: “تساهم المؤمنات في تنحية أنقاض ماضي الفتنة ونواقض حاضرها، لتبني على الأصول مجتمع العدل، وعمران الأخوة، وكيان القوة والكفاية” (18).

ثالثا- المقومات الذاتية لتدبير عملية التغيير

1- الأهلية السياسية

لم تعد مناقشة كفاءة المرأة في التصدي للشأن السياسي مسألة ملحة اليوم. فإن كان الخلاف قد وقع بشأنها في عصور مضت، حيث كان الفقه في مجال السياسة الشرعية منحبسا بسبب أزمة نظام الحكم، فإن مشاركتها السياسية أصبحت اليوم أمرا واقعا، يشهد عليه أن بعضهن “أرجح في ميزان الكفاية والمقدرة السياسية والإدارية من كثير من حكام العرب والمسلمين (الذكور) ولا أقول (الرجال)!” (19). وتستند من جهة أخرى على قول من أجاز أن تكون مفتية وقاضية وحاكمة، كما قال ابن جرير الطبري: “يجوز أن تكون المرأة حاكما على الإطلاق في كل شيء، لأنه يجوز أن تكون مفتية، فيجوز أن تكون قاضية” (20).

أما ما اعتمد عليه الجمهور، من اشتراط الذكورية في القضاء، بناء على الحديث الذي أخرجه الإمام  البخاري عن أبي بكرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله الله عليه وسلم قال: “ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة”، فالظاهر أن له سياقا خاصا، “تجعله نبوءة سياسية بزوال مُلك فارس، وهي نبوءة نبوية، قد تحققت بعد ذلك بسنوات، أكثر منه تشريعا عاما، يحرم ولاية المرأة للعمل السياسي العام” (21). ويؤكد هذا المعنى أيضا ما ذهب إليه القرضاوي، أنه: “لو أخذ الحديث على عمومه لعارض ظاهر القرآن، فقد قص علينا قصة امرأة قادت قومها أفضل ما تكون القيادة، وحكمتهم أعدل ما يكون الحكم، وتصرفت بحكمة ورشد أحسن ما يكون التصرف (…) وقادت قومها لخيري الدنيا والآخرة” (22). تلك هي بلقيس – ملكة سبأ- التي حكى الله تعالى قولها ليبقى خالدا في كتابه العزيز: بِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (النمل، من الآية 44).

علاوة على ذلك ينظر الإمام المجدد رحمه الله إلى المسألة من منطلق الاستبصار بحكمة الله في اختصاص المرأة بعاطفة الأمومة والحس المرهف، ليخلص إلى ضرورة التكامل بينها وبين الرجل في كل أمور الحياة من أجل حسم عملية التغيير، يقول: “لا بد إذن من مساهمة المرأة في القرار الرجالي، إذ لا يمكن أن نعوض إحساسها المرهف وحبها الأمومي الحاسمان في عملية التغيير لكي يتحقق “تداول الأيام”” (23). وينادي المرأة أن تضطلع بمسؤوليتها وتستجيب للنداء من منطلق الواجب: “المرأة المؤمنة كالرجل المؤمن نصيبها من المسؤولية السياسية مثل نصيبه (…) ما هنا لكُنّ معشرَ المؤمنات من دليل يُقيلكن ويعفيكن من المسؤولية السياسية. إن كانت السنة المطهرة خصصت لكن مجالكن الحيوي حيث تزاولن أمانة الحافظية صالحاتٍ قانتات، فعموم القرآن أهاب بكن إلى تعبئة شاملة تدْعَمْنها بما يفيض من وقتكن وجهدكن بعد أداء واجبكن التربوي الأساسي” (24).

أما ما يتعلق بمجالات الاشتغال فواسعة بشرط توفر الكفاءة والقدرة اللازمتين، “للرجل مكانه، وللمرأة مكانها لتزدوج وتنسجم في المجال السياسي القوة والأمَانة كما تزدوج وتنسجم القِوامة والحافظية في الحياة الزوجية. فيما دون الإمامة العظمى مرعىً للمرأة ومسؤولية. ما يغمطها المؤمنون حقها متى أظهرت كفاءة وقدرة” (25).

2- المؤهلات العقلية

من العقبات التي تواجه المرأة في سعيها لاستكمال تعليمها ومشاركتها في بعض مجالات الحياة العامة، مسألة اتهامها بالنقصان في مؤهلاتها العقلية وكفاءتها العلمية، بناء على تأويلات فقهية تعسفية لبعض النصوص الشرعية، تم تجزيء ألفاظها وقراءتها في غير سياقها وحملها على غير مقصدها.

منها حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار. فقالت: امرأة منهن جزلة وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟ قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير وما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن، قالت: يا رسول الله وما نقصان العقل والدين؟ قال: أما نقصان العقل، فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل فهذا نقصان العقل، وتمكث الليالي ما تصلي وتفطر في رمضان، فهذا نقصان الدين) (26).

والواقع أن النظر في نص الحديث واستقراء دلالة ألفاظه وسياق خطابه، بفهم منهاجي يقود إلى مجموعة من التفسيرات التي تفند مقولات التنقيص، وترد إلى المرأة الاعتبار المغصوب. نحاول أن نلمح إلى إشارات مقتضبة توضح المقصود وتغني عن طول العبارة، نقتبسها من دراسة علمية سابقة (27).

· أولا، لفظ “جَزْلة” الذي وصفت به المرأة التي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومعناه، “المرأة ذات العقل والرأي والوقار” (28)، كما يقول الحافظ النووي. فإذا ثبت هذا الوصف، فكيف يستقيم اجتماع الصفة مع نقيضها؟

· ثانيا، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم “ناقصات عقل ودين” لا يحتمل إلا معنى مجازيا، قياسا على أن المعنى يقتضي ذهاب لب الرجل أيضا. فلو تم اعتبار المعنى الأول حقيقة وشرعا، لاقتضى أن يحمل عقل الرجل نفس المعنى (وما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن)، وهذا لا يستقيم لمنافاته غاية الوجود ومقصد الشريعة.

· ثالثا، قوله صلى الله عليه وسلم “أما نقصان العقل فإن شهادة إحداكن نصف شهادة الرجل”؛ هذا القول فيه وصف لظاهرة النسيان الواردة في آية الدين وليس فيه حكم قاطع، “بل فيه تعجب وفيه انبساط” (29) كما يقول الإمام المرشد رحمه؛ بدليل أن الشطر الثاني القاضي بأن وصف “نقصان الدين من أثر الحيض” لا يمكن اعتباره نقيصة، مادام يسير على مجرى الفطرة التي فطر الله المرأة عليها.

· رابعا، لو أن شهادة المرأتين مع الرجل كانت لأجل نقص في أصل التكوين، لما عقب رب العزة بالتعليل: أَن تَضِلَّ إِحۡدَىٰهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحۡدَىٰهُمَا ٱلۡأُخۡرَىٰۚ [البقرة، من الآية 281]، لأنه لا يستقيم حسب هذا الزعم أن تذكر ناقصة العقل ناقصة مثلها، ما دامتا متساويتان في علة الحكم، ويكفي شرفا للمرأة أن الله عز وجل قبل شهادتها من فوق السبع الطباق، حيث قال سبحانه: قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِی تُجَـٰدِلُكَ فِی زَوۡجِهَا وَتَشۡتَكِیۤ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ یَسۡمَعُ تَحَاوُرَكُمَاۤۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِیعُۢ بَصِیرٌ [المجادلة، 1].

من خلال ما تقدم نخلص إلى أن استقراء النصوص الشرعية وملاحظة الشواهد التاريخية الكثيرة، يثبت أن لا فرق بين الرجل والمرأة في المؤهلات العقلية وملكات التفكير؛ التي جعلها الله لهما في أصل الخليقة وطبيعة الفطرة. لأن القول بخلاف ذلك لا يستقيم لمنافاته غاية الوجود ومقصد الشريعة.

خاتمة

إن الحديث عن مشاركة المرأة في التغيير والتنمية، سواء باعتبارها فاعلا أو موضوعا لهما، يصطدم بالإرث الثقيل لتاريخها، وبحاضرها المشحون بمؤثرات الحملات التغريبية وفلسفاتها التخريبية.

وهو ما يفسر ضعف مستوى مؤشرات مشاركتها الفاعلة فيهما وكذا استفادتها من نتائجهما، مما يبرر حجم الجهود التي ينبغي مضاعفتها لرفع كثير من تحدياتها.


(1) عبد السلام ياسين، الإسلام والحداثة، مطبوعات الهلال، وجدة، ط /2000، ص: 293.

(2) عبد السلام ياسين، سنة الله، مطبوعات الهلال، وجدة، ط1/2005، ص: 275.

(3) نفس المرجع والصفحة.

(4) عبد السلام ياسين، العدل الإسلاميون والحكم، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، ط1/2000، ص: 302.

(5) عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، ط1/1996، 2/ 244.

(6) العدل، م س، ص: 316.

(7)  ميثاق الأمم المتحدة 1945، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948، اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة 1979، البروتوكول الاختياري لاتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة 1999…

(8) نص الوثيقة الختامية لمؤتمر بكين الخاص بالمرأة، 1995، المادة: 13.

(9) محمد بن إسماعيل البخاري، الجامع الصحيح، دار التأصيل، القاهرة، ط1/2012، 9/171. (رقم: 7137)

(10) تنوير المؤمنات، م س، 2/303.

(11) تنوير المؤمنات، م س، 2/102.

(12) العدل، م س، ص: 310.

(13) المرجع نفسه، ص: 308.

(14) المرجع نفسه ، ص: 311.

(15) العدل، م س، ص: 291.

(16) الإسلام والحداثة، م س، ص: 293.

(17) المرجع نفسه، ص: 211.

(18) تنوير المؤمنات، م س، 2/360.

(19) يوسف القرضاوي، من فقه الدولة في الإسلام، دار الشروق، القاهرة، ط3/2001، ص: 175.

(20) ابن رشد الحفيد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ت محمد صبحي حلاق، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، ط1/1415، 4/429.

(21) تأليف جماعي، حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، منشورات وزارة الأوقاف المصرية، القاهرة، 2002، ص: 592.

(22) من فقه الدولة، م س، ص: 175.

(23) الإسلام والحداثة، م س، ص: 211.

(24) تنوير المؤمنات، م س، 2/303-304.

(25) المرجع نفسه، 2/304-305.

(26) الإمام مسلم، الجامع الصحيح، دار طيبة، الرياض، ط1/2006، 1/51. (رقم:132)

(27) مراد شبوب، إسهامات المرأة المغربية الأندلسية في التراث الفقهي، معالم وتحديات، دار عالم الكتاب الحديث، الأردن، ط1/2020، ص: 87.

(28) الحافظ النووي، المنهاج في شرح صحيح مسلم، بيت الأفكار الدولية، س غ م، 1/250.

(29) تنوير المؤمنات، م س، 2/314.