مفاتيح في تربية الأبناء

Cover Image for مفاتيح في تربية الأبناء
نشر بتاريخ

تأطير

صلاح الإنسان شرط لصلاح الحياة والكون، وصلاح الإنسان بتربيته وتنشئته تنشئة تحفظ فطرته وتصونها من الطمس، وترفعه إلى مستوى التكريم، يتلقاها في حضن الأسرة ودفئها. لذلك وضع الإسلام للزواج ضوابط وشروطا، تقوم على الصلاح والخلق في اختيار الزوجين، فرغب في اختيار ذات الدين، مثلما رغب في اختيار من يُرضَى دينُه وخلقه، تجنبا لفتنة وفساد كبيرين في المجتمع.

فطرة تصان

التربية سمو وكمال: التربية في اللغة نمو وزيادة، وفي الاصطلاح تعني السمو بالنفس نحو الكمال البشري الذي أودع الحق سبحانه متطلباته في الإنسان. والتربية اكتشاف لمؤهلات الإنسان وتنمية خصال الخير فيه وتوجيهها لبناء شخصية سوية جسما ونفسا وروحا وفكرا. ومتى فشلت العملية التربوية أو زاغت فسد الإنسان وزاغ بسلوكه العام عن الجادة.

والتربية فن يقوم على قواعد كثيرة، نذكر بعضها أو أهمها، مع التذكير بخصوصية النفس البشرية التي تتميز بالتنوع، فما ينجح في حالة قد لا يعطي نفس النتيجة في حالات أخرى، وقد لا يكون الخلل في القواعد بقدر ما يكون أحيانا في طريقة تنزيلها أو توقيتها أو في جُرعتها، لهذا تتأسس التربية على الحكمة وسعة الصدر والاعتدال في كل شيء: حب دون دلع، ولين دون قسوة، وحزم دون تسلط، وحرية دون تسيب.

قواعد ومفاتيحُ

1. الدعاء والتضرع لله تعالى

لعلها إشارة بليغة أن جاء القرآن الكريم زاخرا بالدعاء للأبناء بالصلاح على لسان الأنبياء والمرسلين والصالحين، فهذه أم مريم تُعيذ وليدتها وذريتها من الشيطان الرجيم: وَإِنِّيٓ أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ [آل عمران: 36]، وسيدنا زكرياء عليه السلام يسأل الذرية الطيبة: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُۥۖ قَالَ رَبِّ هَبۡ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةٗ طَيِّبَةًۖ إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ [آل عمران: 38]، وهذا سيدنا إبراهيم عليه السلام يسأل الله أن يوفقه وذريته لإقامة الصلاة: رَبِّ ٱجۡعَلۡنِي مُقِيمَ ٱلصَّلَوٰةِ وَمِن ذُرِّيَّتِيۚ رَبَّنَا وَتَقَبَّلۡ دُعَآءِ [إبراهيم: 40]، وعلى لسان عباد الرحمن يقول سبحانه: رَبَّنَا هَبۡ لَنَا مِنۡ أَزۡوَٰجِنَا وَذُرِّيَّٰتِنَا قُرَّةَ أَعۡيُنٖ وَٱجۡعَلۡنَا لِلۡمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان: 74]، وعلى لسان كل مؤمن معترف بأنعم الله عليه، يقول جل جلاله: رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُ وَأَصۡلِحۡ لِي فِي ذُرِّيَّتِيٓۖ إِنِّي تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ [الأحقاف: 15]. ومظنة استجابة الدعاء الاستقامة، ذلك أن استقامة الآباء وصلاحهما مجلبة لصلاح الأبناء وحفظهما.

2. التوافق بين الأبوين

من العوامل الحاسمة في تربية الأبناء توافق الأبوين وتكاملهما في المواقف والتدخلات، فعلى قدر ما يتحقق من انسجام بينهما تنجح العملية التربوية؛ بالمقابل تختل العملية عندما لا يتفق الأبوان في تقييم سلوك أو مواقف الأبناء، فتتعدد المراجع ومصادر القرار، وتتوفر فرص التسيب التي يستغلها الأبناء، ما دام الأبوان لم يتوافقا.

ومما يجدر التنبيه إليه تفادي حسم خلافات الأبوين أمام الأبناء، لاسيما ما يتعلق بسلوك الأولاد وتصرفاتهم، حفاظا على هيبتهما وسلطتهما التربوية التي قد تخدش عندما يظهر النقاش خطأ أحد الأبوين؛ بل على العكس من ذلك يجب أن يظهر الأبوان كل التقدير والاحترام لمواقف وقرارات بعضهما البعض.

3. إظهار الحب والمودة

لا شك أن جميع الآباء يحبون أبناءهم، وإنما يختلفون في طريقة التعبير عن ذلك الحب؛ غير أن شعور الأبناء بحب آبائهم لهم عنصر حاسم في بناء الثقة في ذواتهم، ضمانا لنجاح التربية، وتأهيلا للأبوين ليكونا مرجعين معتمدين من طرف الأبناء. فأساس التربية هو الإقرار بالأهلية، وقد لا ينتبه الآباء إلى رأي الأبناء فيهم والصورة التي تشكلت في وجدانهم عن آبائهم، وثقة المريض في الطبيب حاسمة في تقبله للعلاج.

4. تقدير الأبناء واحترام كرامتهم

إصدار الأحكام السلبية تقييما لأداء وتصرفات الأبناء معول هدم خطير في التربية، فمن تعود على سماع أحكام من قبيل: أنت فاشل، أنت لا تصلح لشيء، أنت لا يعتمد عليك… اقتنع أنه لا يمكن أن يحظى بثقة أبويه مهما فعل، فيكون ذلك مدعاة للاستسلام والفشل. والصواب أن يُشعر الأبوان الأبناء بثقتهما فيهم وفي قدراتهم؛ فلا بد من التمييز بين الحكم على تصرف أو سلوك، وبين الحكم على صاحب ذلك التصرف أو السلوك، ففرق كبير بين أن يقول أحد الأبوين مخاطبا ولده: أنت مخطئ فاشل، وبين أن يقول: هذا تصرف غير موفق.

وتبقى من الأخطاء الفادحة في تربية الأبناء مقارنتهم ببعض في مجال التحصيل الدراسي، أو مقارنتهم بأبناء العائلة أو الجيران؛ مقارنة لا تصح لأنها تتجاهل قدرات الأبناء ومؤهلاتهم التي لا تنجح المنظومة التعليمية في اكتشافها وإبرازها.

5. متابعة مراحل النمو ومراعاة متطلباته

ينمو الأبناء وفق مراحل عمرية متنوعة، تتنوع معها احتياجاتهم المادية والمعنوية، تفرض على الآباء تتبعا دائما وواعيا لهذه المراحل، وقياما بما تقتضيه كل مرحلة، ومن الخطأ معاملة المراهق كما كان يعامل وهو طفل، فلكل مرحلة معاملتها الخاصة، جاء في الأثر: “داعبه سبعا، وأدبه سبعا، وصاحبه سبعا”، وهذا يعني أن لكل مرحلة عمْرية خصائصَ ومتطلباتٍ، فيكون بناء شخصية الأبناء سويا سليما بحسب منسوب التوفيق في إيفاء كل مرحلة ما تحتاجه، دون إفراط أو تفريط.

6. التشجيع والتنويه

يعتبر التحفيز من العوامل المساعدة على بذل المزيد من الجهد سعيا لتحقيق نتائج أفضل، فمتى نجح الأبناء في دراستهم بشكل أخص وجبت مكافأتهم، ولو بعبارة تعبر عن الرضا والتقدير، إذا لم يكن بجائزة أو هدية، تؤكد اهتمام الأبوين بهم وبمجهوداتهم، ضمانا لاستمرارهم على نفس النهج؛ فمنظومة تربية تقوم على التوبيخ والزجر وترصد الهفوات فقط فاشلة لا تبني ولا تفيد في إعداد الأجيال.

7. الاهتمام بقضايا الأبناء

للأبناء عالمهم وقضاياهم وانشغالاتهم، ومن تمام المسؤولية الانفتاح على هذا العالم، وتشجيع الأبناء لطرح مشاكلهم، تبادلا للآراء ووجهات النظر، وليس بالضرورة التوافق على الحلول. ومن الخطأ تجاهل القضايا التي يود الأبناء إثارتها مع آبائهم؛ وعين العقل أن ينظر إليها من زاوية الأبناء وإعطائها ما تستحق من الوقت في جو من الحوار الهادئ، وبتوجيه هادف، ينمي إدراك الأبناء، ويوطد ثقتهم في آبائهم. وكل انشغال عن الأبناء أو تجاهل لمشاكلهم يدفع للبحث عن جهات أخرى للتداول فيما يشغلهم، وقد تكون الرفقة السيئة هي الجهة المحتضنة والموجهة، ومن ثم يخطو الأبناء الخطوة الأولى نحو الانحراف.

8. من الأخطاء يتعلم الناس

مع التوجيه ودوام النصح لا بد من توقع الأخطاء، والحكيم من يربي بالخطأ، ويبني بالزلة، في توجيه سديد من غير إهانة أو تجريح، أو مواجهات حادة تفقد الآباء صوابهم وقدرتهم على تطويق المشاكل، فتدفعهم لأساليب التعنيف اللفظي أو الجسدي أو المعنوي، فتضيع وظيفة الأبوة بما هي حلم وسَعة صدر وبعد نظر.

9. مراقبة في غير حصار

من تمام مسؤولية الآباء مراقبة أبنائهم سلوكا ورفقة ودراسة، على ألا تتحول هذه المراقبة إلى حصار يعُدُّ على الأبناء أنفاسهم، ويشعرهم أن الرقابة الأبوية تطاردهم في كل وقت وحين، مما يولد لديهم شعورا بالارتباك وعدم القدرة على أية مبادرة مهما كانت بسيطة، بل يجعلهم موضوع سخرية بين أقرانهم. إنما يحتاجه الأبناء هو الحرية القائمة على المسؤولية والمتابعة الرحيمة.

10. الاستقلال المالي

التربية المالية باب ذو أهمية في بلورة شخصية الأبناء، حيث يتدربون على كيفية استعمال النقود والتعامل بها لاقتناء حاجياتهم الخاصة، مع ما قد يسجل من أخطاء تعتبر مفيدة. على أن شح الآباء على الأبناء قد يدفع للسرقة بطرق متعددة، لا يفطن لها الآباء دائما: (ادّعاء الحاجة للوازم دراسية، بيع حاجياتهم وزعم ضياعها..).

11. القدوة

التربية بالحال قبل المقال، ومن لا حظ له مما يطالِبُ به غيرُه عموما وأبناؤه خصوصا، لا صدى لصوته، ولا أثر لحركته، ففاقد الشيء لا يعطيه، وما أبلغ قول الشاعر:

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إن فعلت عظيم 

إن أخلاق الأبناء – في الغالب الأعم – من أخلاق آبائهم، وقد يعود الفشل في تربية الأبناء إلى فشل الآباء في تقديم نموذج عملي صالح ومؤثر في نفوس الأبناء. لذلك فأهلية الآباء الحقيقية ومصداقيتهم تستمد من نموذجيتهم التربوية كما يحدد ذلك القرآن الكريم في سورة لقمان، إذ سحبت الوظيفة التربوية من الأبوين متى زاغا عن الجادة، وأمر الله تعالى الأبناء بالبحث عمن يُتخذ دليلا ومصحوبا مربيا على قاعدة الصلاح والاستقامة، يقول الحق سبحانه: وَإِن جَٰهَدَاكَ عَلَىٰٓ أَن تُشۡرِكَ بِي مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٞ فَلَا تُطِعۡهُمَاۖ وَصَاحِبۡهُمَا فِي ٱلدُّنۡيَا مَعۡرُوفٗاۖ وَٱتَّبِعۡ سَبِيلَ مَنۡ أَنَابَ إِلَيَّۚ [لقمان: 15].

خلاصة

تعتبر تربية الأبناء من أوجب الواجبات على الآباء، وبحكم ما تتطلب من جهود من جهة، وما يترتب على نجاحها من خير يمتد عبر الأجيال من جهة ثانية، خصها ديننا الحنيف بعناية متميزة، واعتبر تربية الأبناء عملا صالحا يستمر خيره وثوابه إلى ما بعد وفاة الأبوين، وفي الحديث النبوي يقول صلى الله عليه وسلم: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث…” فعد الولد الصالح من هذه الثلاث: “وولد صالح يدعو له”.

وتزداد تربية الأبناء صعوبة بقدر فساد المنظومة التربوية السائدة في المجتمع، حيث تغولت الميوعة، وسُخرت وسائل الإعلام في الترويج لثقافة التفاهة وطمس الفطرة السليمة بأساليب ممنهجة، ما يفرض على الأسر سد فراغ باقي أطراف العملية التربوية، بل ومقاومة غزوها وعدوانها اليومي على فطرة الأبناء.

إن تربية الأبناء مسؤولية يُسأل عنها الأبوان، ويبقى عليهما استفراغ الوسع فيما كُلفاه من رعاية، على أن التوفيق بداية ونهاية من الحق سبحانه، لكن حكمته اقتضت الأخذ بالأسباب.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.