مفاتيح لفهم القضية الفلسطينية من خلال سنة الله

Cover Image for مفاتيح لفهم القضية الفلسطينية من خلال سنة الله
نشر بتاريخ

مقدمة

سنة الله تعالى ميزان القياس، ومنظار الرؤية من أجل تعميق الفهم؛ قراءة للتاريخ، وتوسيعا لأفق النظر، وإعمالا لقوانين الله تعالى في كونه، ونواميسه التي وفقها أبدع خلقه، فلا غنى لمؤمن يدرك أن للخلق معنى وهدفا وغاية، من أن يعرض مختلف ما استشكل عليه على سنن الله ولن تجد لسنة الله تبديلا، ليتبين موقعه وموقفه، وليطمئن قلبه أولا إلى أن الفتن والمحن سنة الله تعالى، بها يميز الخبيث من الطيب، وهي طريق الانتقاء والاصطفاء ثم الارتقاء، وليستنهض همته ثانيا تبعا لما تطلب إليه سنة الله من ضرورة الانخراط في الفعل التدافعي الذي لولاه لاختل ميزان العدل، ولطغت كفة الفساد في الأرض، ثم ليعلم ثالثا أن للحق ضريبة واجبة الدفع لا محيد عن ذلك، وعلى هذا كان دأب الدعاة ممن اقتفوا أثر الأنبياء وساروا على دربهم، فكما أن النصر وعد من الله تعالى لعباده المؤمنين، فالابتلاء والأذى سنة من سنن الله في طريق استخلاصه، ولا يستخلص الذهب من الشوائب إلا بعد فتنه. ومهما تغير وجه التاريخ وتسارعت أحداثه، تظل الفطرة ثابتة، ودوافع النفس البشرية الميالة إلى القوة والتحكم لا يحد من غلوائها إلا فطرة الإيمان بالله تعالى والانصياع لأوامره فعلا وتركا.

سنة الله هي القانون الإلهي العام الذي يحكم حركة التاريخ والاجتماع البشري دون تمييز أو محاباة، فهي ثابتة لا تتغير، وهي عامة لا تستثني أحدا، وهي مطردة مستمرة متجددة، وترتب النتائج على ما سبقها من أسباب، وفق قاعدة لا تعرف الشذوذ، وهي بتلك الصفات أصبحت فطرة الله التي فطر الناس عليها، وشكلت أساسا للعقل المسلم في فهمه لمحيطه ومختلف قضاياه وعلاقة ذلك كله بالمصير فردا وجماعة في الدنيا والآخرة.

ولنفس القانون الإلهي، نخضع القضية الفلسطينية، بما لها من مركزية في عقيدة المسلمين، لنفتح من خلال ما تقترحه سنة الله من مفاتيح، أبواب الفهم التي أوصدتها آلة التعتيم الإعلامي التي تحركها أيدي الصهيونية وحلفاؤها، وسحر الحضارة المادية، وهم روادها وصانعوها، المغيبة لمعاني الخلق وقضايا المصير بعد الموت، المشوهة للوعي، الماسخة للفطرة، استجداء لصفاء الفهم، وإزالة لكل غبش يحجب وضوح الرؤية.

في مقدمة كتاب سنة الله للأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى، أشار إلى أربعة مفاتيح مهمة، للنظر في واقع الأمة، ولقراءة تاريخها، واستشراف مستقبلها، استنادا إلى قاعدة سنة الله، وهي المفاتيح ذاتها التي نفتح بها سراديب الوعي التي أظلمت تحت كلكل الهزائم المتوالية، وتاريخ الخيانات المثقل بالخيبات، وتحالف الاستكبار العالمي مع الاستبداد المحلي، وما نتج عن ذلك من هزيمة نفسية وشعور بانعدام الثقة، مما لا يدفعه إلا استرداد الوعي المغيب بإخضاعه لأصل منشئه من خلال سنة الله.

لماذا اختيار القضية الفلسطينية من بين كل قضايا الكتاب؟

لعل أول ما يومض في الذهن أثناء قراءة الكتاب، لهو تموقع اليهود، تاريخيا، في خارطة الاجتماع البشري من حيث كونهم رمزا للإفساد في الأرض، المقاوم لغايات الاستخلاف وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون (البقرة، آية 30)، فهم قساة القلب وقتلة الأنبياء، وهم الجرثومة الناشرة لعدوى داء الأمم كما وصفهم الأستاذ عبد السلام  ياسين، ورسل الضلال، فقضية فلسطين من منظار سنة الله هي بداية المواجهة بين جبهة الحق وجبهة الباطل، بهذا الفهم تكون قضية كل المسلمين المطالبين بإعداد العدة لاستقبال الخلافة الثانية، بعد تحقيق وعد الآخرة الذي يجمع الله له بني إسرائيل لفيفا في أرض ميعاد حتفهم، بعدما سكنوا كل الأرض ونفثوا فيها سموم فسادهم “إنها مواجهة كونية هائلة بين حق الوحي وظن الجاهلية، بين أخلاق الإسلام وتبرج الجاهلية، بين أخوة الناس جميعا والتسامح والرحمة وبين حمية الجاهلية، بين عدل الإسلام وشورى الإسلام وبين حكم الجاهلية” كما جاء في كتاب سنة الله ص 119. ننظر إليها أيضا في إطار غثائية الأمة وإصابتها بالوهن، بعد انتقاض عروة الحكم فيها وتقطع أوصالها وتوالي الفتن عليها من الداخل والخارج، وضياع أمرها بين المد الامبريالي الاستكباري الذي تغذيه الأحقاد التاريخية والأطماع الحالية، وحكام العض والجبر ممن استهوتهم زينة الدنيا وشهوة السلطة وضحوا بمصير الأمة في الماضي من أجل حميات جاهلية، ويتاجرون اليوم بشعوبهم وقضاياها حماية لمصالح الاستبداد وتأبيده، بينما أمة الكم الغثائي، بما يناهز المليارين، أمة مستهلكة لزينة الدنيا التي تفنن اليهود الصهاينة في صناعتها وعرضها، تغط في سباتها، وقد تداعت عليها الأمم لما تعلقت بالدنيا وهابت الموت، الوهن حب الدنيا وكراهة الموت.

ومن المفاتيح التي يقترحها الكتاب للتأمل واستخلاص العبر المستنهضة لهمة المؤمن من خلال سنة الله، اخترت أربعة لإعمال النظر في قضية فلسطين وموقعها من حركة التاريخ.

1- ثبات الفطرة الإنسانية المغروزة في النفوس.

يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: “وجعل سبحانه لمسيرة بني آدم نواميس تحكم مجتمعاتهم ببواعث النفوس… التي تلهب أهواء الأقوياء ليرضوا نهمهم باحتواش الأموال واحتكار السلطان والاستكبار في الأرض والبغي وجحود الخالق وصد المستضعفين في الأرض عن سبيل الله بوسائل التفقير والإشغال والتحقير وملء الفضاء عليهم بالتعمية العقلية والسحر وتكذيب الرسل وإذايتهم وإبادة الدعاة وقتل الأنبياء” (سنة الله، ص7).

 هي سنة الله في التاريخ منذ الأزل، وهي قضية التماس في المعركة المحتدمة بين الحق والباطل إلى أن تقوم الساعة، ومهما تغيرت أوجه التاريخ وتجلياته، تظل كلها تدور حول ثابت الفطرة البشرية المنجذبة إلى دوافع السيطرة والتحكم، في مقابل ثابت الفطرة الإيمانية المقاومة لزحف الباطل وتمدده، ولطالما كان اليهود طيلة تاريخهم، وهم قتلة الأنبياء ومحرفو الرسالات والمتجاسرون على الله، تعالى الله ربنا، بشهادة كتابه العزيز، واجهة للباطل وصورة لخبث النفس البشرية وقساوة القلب ومثالا لمعسكر الفساد في الأرض وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين (الإسراء، الآية 4)، لذلك لا يمكن اختصار القضية الفلسطينية إلى مجرد صراع جغرافي على الحدود حتى لو كان مشروعا، لأنها معركة مصير وجودي؛ بين أهل الإيمان الموعودين بالنصر، وأهل الباطل أولياء الشيطان الداعين إلى الضلال ومن استن بسنتهم، فـ”في كل زمان ومكان يتكتلون ويتآمرون على الشعوب التي نزلوا عليها أضيافا بعد أن سلط الله عليهم من أجلاهم تنفيذا لما كتب عليهم من الجلاء والتشرد إلى يوم القيامة” كما يقول الأستاذ عبد السلام ياسين (ص 103)، هكذا نفهم حقيقة المعركة التي اتخذت من واحدة من أقدس بقاع المسلمين مركزا لنفث سموم حقدها تجاه الإنسانية كلها وما تمثله من قيم، حقيقة المعركة بين عقيدتين لا تعايش بينهما ولا تطبيع، ولا مهادنة إلا بتصفية الاحتلال من أرض الإسلام في معركة أخبر بها القرآن الكريم وهي المواجهة المحتومة لاستئصال شأفة اليهود الذين جاء بهم وعد الله لفيفا لأرض فلسطين بعد أن سكنوا الأرض وأشاعوا فيها الفساد سياسيا واقتصاديا وثقافيا وإعلاميا .. وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا (الإسراء، 104).

2- المطلب الإحساني دخول في سنة الله بالابتلاء، اقتفاء لأثر الأنبياء والرسل عليهم من الله السلام.

وفي ذلك يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: “لم نحد عن المطلب الإحساني بالدخول في سنة الله. بل يكون طلبنا لهذه المقامات أشبه بطريق الرسل وألصق بنموذج الرسل وأليق بواجبات الجهاد إن قبلنا إيمانا وتصديقا بسنة الله، واتبعنا عملا وجهادا وصبرا ومكايدة ومدافعة سنة رسل الله. عليهم صلاة الله وسلام الله” (سنة الله، ص 8).

سنة الله تتوجه لكل مسلم منادى بأمانة الاستخلاف في الأرض، مطالب بتأسيس قواعد العمران الحضاري الجامع لشمل الأمة، حيث أن طلب الإحسان ليس فرارا بالدين من واقع الفتنة والهرج والمرج إلى خلوات الوجد، إنما سلوك إلى الله على درب الأنبياء والمرسلين، وما لاقوا من إذاية  وتكذيب وقتل، فصبروا وبذلوا فداء لدعوة الحق، ومجابهة لأولياء الشيطان وجنوده، وكذلك كان حال الدعاة القائمين بأمر الله عز وجل إعلاء لكلمته ونصرة للمستضعفين في كل زمان ومكان، لم يستقيلوا من واجبهم الديني أو التزامهم الأخلاقي، ولم تكن هجرة المجتمع والعزلة عن هموم الأمة للدارجين على سلم التزكية، إلا انحرافا في فكر المسلمين وحيادا عن جادة السلوك الإحساني الذي ذروة سنامه الجهاد. ولما تعاظم الاستكبار الصهيوني مدعوما بقوى الاستكبار العالمي، وعلا في الأرض وتمركز في قلب الأمة وقد مهد له الاستبداد المحلي متمثلا في الأنظمة الخائنة التي ربطت مصالحها في تشديد القبضة على الشعوب المستضعفة بمصالحه الاستراتيجية في التحكم والسيطرة وإشاعة الفساد المؤمن لوجوده واستمراره، وانتشر كما ينتشر السرطان الخبيث في الجسم ليضعفه، بات من الواجب الديني ردعه والتصدي لمخططاته امتثالا لسنة الله في مجابهة الطواغيت، رغم ما يهدد به من وعيد لكل حركة تستنهض همة الأمة لتستعيد هيبتها وتشفى من داء الوهن الذي أصابها حينما استكانت لما بسط أمامها من الدنيا وتركت فضيلة الجهاد الذي أشارت إليه الآية الكريمة بالتي هي أقوم. يطلب للمسلمين اليوم، وهم يقرؤون سنة الله في الابتلاء والتمحيص، أن يبذلوا من أنفسهم وأموالهم ضريبة النصر وثمنه اقتداء بالأمثل فالأمثل وهم الأنبياء ومن سلك على منهاجهم، طلبا لمقامات الإحسان في العبادة والعمل الصالح والبر إلى الخلق، وسلوكا إلى الله تعالى.

3- التعرض لوعد الله بالنصر قبول إيماني واحترام عملي.

وفي ذلك يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: “ولمستقبل الإسلام يتحتم قبول الشروط التي وضعها الله عز وجل في المجتمعات البشرية واحترام قوانينه في التاريخ والتعرض لوعده بالنصر. قبول إيماني واحترام عملي هما ضمان النجاح… القبول الإيماني يصل دنيانا بآخرتنا ويربط مصيرنا في الآخرة بأعمالنا هنا، والاحترام العملي يثبت أقدامنا على الأرض، ويضع في أيدينا وسائل القوة التي أمرنا بإعدادها” (سنة الله، ص 8).

وفي معركة المصير بين أهل الحق وأولياء الشيطان، لا يتنزل النصر على القاعدين الحالمين بالمدد الإلهي الخارق للعادة، بل على من تعرض لوعد الله باحترامه لقوانينه سبحانه وتعالى في كونه وسننه في خلقه، وأخذ بالأسباب مع وقبل التوكل بالدعاء استجداء للمدد، فـ(ما رأيناه من إفسادهم “اليهود” ظهر في الأرض وشهدته الناس وأخبرت به فذاك. وما لايزال في طي الغيب مذخورا في المستقبل من “وعد الآخرة” ونصرة الله لعباده المجاهدين فحق لا نرتاب فيه، ووعد منجز نستعد له ونعد له إن شاء الله القوة) يقول الأستاذ ياسين (ص 113). ليس معنى ذلك الركون والانتظارية السلبية، فسنة الله في ثباتها وعمومها واضطرادها لا تنحاز، وهي تجري في ترتيب النتائج على مسبباتها على المؤمن والكافر، واستقبال المؤمن لوعد الآخرة لا يكفي فيه القبول الإيماني، إنما يطلب إليه، إضافة لذلك، الاحترام العملي بإعداد العدة والأخذ بالأسباب واستفراغ الوسع في مجابهة الصهيونية وإحباط مخططاتها على الأرض، وسعيها لفرض الأمر الواقع بواسطة التطبيع لتتوغل وتستقر، وتمحو فلسطين من ذاكرة الأجيال القابلة، وتتحقق أحلامهم بالسيطرة تحت ظل “إسرائيل الكبرى”.

4- من سنن الله تعالى تعاقب النصر والهزيمة.

يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: “ومن شروط الله وسنته المكملة لمعاني حكمته في الكون وابتلائه للعباد بالسراء والضراء أن يتعاقب النصر والهزيمة ليربي الله الذين آمنوا ويمحصهم ويمحق الكافرين آخر المطاف” (ص 9).

ليست الهزيمة حالة مزمنة لا شفاء منها، ولا النصر مستداما، إنما يخضعان لقوانين سنة الله في تداول الأيام بين الناس، وإن أخطر ما أصبح ساريا بين الكثير من الشباب الصاعد، الذي لم يعش الألم والأمل مع جحافل المقاومة على أرض فلسطين بعد النكبة والنكسة وخيبات الأمل المتتالية، وبعدما نراه اليوم من تصاعد موجات التطبيع في الوطن العربي برعاية الأنظمة وتواطئها، والدعم العالمي لاستقرار “إسرائيل” والحفاظ على أمنها، لهو شعور اليأس من ممكنات النصر والنهضة من جديد. فالغافل عن سنة الله لا يرى في الأفق القريب ولا البعيد أملا في أن ترجح كفة المسلمين، وينسى أن الذي أخرج اليهود أنفسهم وهم قلة، من “جيتوهات” الذل والمهانة في أوربا، إلى السياسة العالمية والاقتصاد العالمي وامتلاك وسائل الإعلام العالمية والمؤسسات المالية العالمية .. ليصبحوا سادة الحداثة وأنبياءها، والمتحكمون في مصير الحضارة المادية الموجهون لدفتها، ليحققوا قدر الله وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض، هو سبحانه المنجز لوعده فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا، والذي أخرج يهود خيبر ليوم إجلائهم بعد نصر عزيز أعز به الله الإسلام، قادر على إخراج الأمة من ورطتها الحضارية وكبوتها التاريخية، حينما تلتقي سنته الآفاقية الآخذة بأيدي المجاهدين المحترمين لنواميس الكون وأسبابه الموضوعية، بسنته الأنفسية الآخذة بيد المؤمنين المصدقين بوعد الله. الغافل عن سنة الله لا يرى حقيقة تجمع بني إسرائيل في دولة بعد أن أتى الله بهم لفيفا لوعد الآخرة، ولا يرى في احتلال فلسطين إلا انتصارا لليهود.

وفي الختام

أقتبس من نصوص كتاب سنة الله:

“من آيات الله العظمى في الكون، بالنظر للمسألة التي تهمنا، أن يكون اليهود مدفوعين دفعا ذاتيا قويا والانتظام والإسراع إلى أرض يعتبرونها – عقيدة ثابتة لديهم – أرض الميعاد. وهي هي أرض “وعد الآخرة” في ديننا وقرآننا” (ص 139).

 “قضية فلسطين بداية المواجهة الحاسمة بين الحق والباطل، بين الجاهلية والإسلام. مع الجاهلية تنبؤ يهودي بمملكة صهيون الألفية. ومع الإسلام وعد الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بالنصر المبين، وبالخلافة على منهاج النبوة، وبظهور هذا الدين على الدين كله ولو كره المشركون، ولو كره الكافرون” (ص 119).