نفحات رمضانية (2)

Cover Image for نفحات رمضانية (2)
نشر بتاريخ

اقلب دولة نفسك وطهر ثوبك من دنس المعصية، وأعظم المعاصي تكبّرك عن الخضوع بالعبودية بين يدي مولاك، تخل من أدران قلبك؛ “رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم”، اطرق بها باب الرجاء بإصرار السائل المحتاج، وتجرد من حولك وقوتك، وانكسر أمام ضعف إنسانيتك، فإذا انفتح الباب فاسلك بأدب وادخل محراب المناجاة.

روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة)، وروى مسلم في صحيحه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم أكثر من سبعين مرة).

يا الله! حبيبك الذي غفرت له يستغفرك ويتوب إليك كل يوم مداومة وإلحاحا، فمن أي شيءٍ يتوب؟ وعن أي شيء يستغفر؟

هو المعلم الهادي صلى الله عليه وسلم، يعلمنا أن حقيقة التوبة دوام الرجوع إلى الله الحق وعدم الركون إلى الإعجاب بالطاعة، وحقيقة الاستغفار كمال العبودية بالاعتراف الدائم بالتقصير، من ثم كانت تلكما الحقيقتان ترياق العارفين، ومطهرة قلوب السالكين، أدركوا كنه الأمر النبوي بدوام الرجوع إلى الله والإنابة إليه فداوموا وتلذذوا بالخضوع والانكسار لما ذاقوا حلاوة عسله.

“رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم”؛ يا لها من عبارة جامعة مانعة لكل معاني المناجاة والخضوع والرجوع، ثم الاعتراف بأن كل نعمة هي من الله المنعم، ولا أجل من نعمة أن تطرق باب الله فيفتح لك تكرما ويقبلك ضيفا في محراب مناجاته.

تبدأ بما يفتح به باب الدعاء، دعاء يثبت حقيقة الصلة بين الخالق والمخلوق، بين العابد والمعبود؛ “رب”، تناجيه، تطلبه بأدب من أدرك جلال من يقف بين يديه، تسأله: “رب”! تعترف بالربوبية وما يترتب عنها من إقرار لحكمه سبحانه وأمره… “رب”، تطعم بها الروح من أطايب الكلم فلا تشبع من رحيق القرب، وتتعطر من مسك الوصال فلا تقوى بعد على لهيب الشوق تعلقا بحبيب السالكين.

ثم تردف بسؤالك: “اغفر لي”، وأنت تعلم أن لا نهاية لحسرتك إن لم تفز بمغفرة يجود بها عليك الجواد الكريم، تعترف أمامه في ذل انكسارك بالذنب وبالتقصير، وترقع ثوب غفلتك بالاستغفار مداومة وإلحاحا وتأدبا؛ “اغفر لي”، فأنت تعلم أنه لا يغفر الذنوب إلا الله.

“رب اغفر لي”؛ وأنت تقبل عليه بأوزارك ترجو رحمته وتقف باستحياء أمام عدل محكمته، لكنك تسأله فضله، وتعوذ به مما تحمل على ظهرك، فلو حاسبك بالعدل ضعت.

وتمضي تتقدم في محراب الرجاء فتسأل: “وتب علي”، فأنت تعلم أنه سبحانه إن لم يعبّد أمامك طريق العودة إليه، فلا تملك حينها من أمر نفسك شيئا، فتسأله أن يتوب عليك فينصرك على هوى النفس الذي يجرك جرا إلى الإعراض، وعلى شهواتك التي تجذبك إلى لذة فانية في دنيا فانية لا تساوي عند الله تعالى جناح بعوضة، فتصدك عن لذة القرب والإنابة إلى حبيب كل من عرف طريق التوبة والأوبة.

ثم تختم بالحقيقة المطلقة “إنك أنت التواب الرحيم”، فلولا رحمته بعباده ما زكى أحد من العالمين، ولا عرف طريق التوبة سالك على درب العارفين. حقيقة الحب الأعظم؛ حب الله لعياله، يذكرهم إذا انصاعوا للنسيان، ويطهرهم ويتوب عليهم، يبتليهم ليردهم إليه، ويضعفهم ليدركوا عظمة خلقه فيؤوبوا ليدركوا بأعين قلوبهم رحمته، إذ لو شاء الجبار لأطبق عليهم السماء والأرض، لكنه عز وجل الرحيم، ينتظرهم بعفوه وكرمه كل ساعة وكل لحظة ليعودوا إليه، بل إنه ينزل إليهم في السماء الدنيا وفي ساعة الخلوة ليستقبل أفواج التائبين المستغفرين، سبحانه وتعالى الرحمن الرحيم.

اللهم اجعلنا ممن يسمع القول فيتبع أحسنه، آمين يا رب العالمين.