“وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ”

Cover Image for “وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ”
نشر بتاريخ

كانت حياة السيدة “مريم” عبارة عن سلسلة من الامتحانات والابتلاءات، حيث ولدت في ظروف خاصة على غير عادة البشر. فالوالد “عمران” الذي عرف بصلاحه وحسن عبادته، والوالدة “حنة بنت فاقوذ” التي تميزت برضاها وكثرة تفاؤلها، فقد أنجبتها في سن متقدمة، لتنذرها لخدمة بيت المقدس بعدما توفي الأب “عمران” وهي لا تزال جنينا في بطن أمها، وقد أجرى كبراء القوم ووجهاؤهم قرعة آلت إلى أن النبي “زكرياء” هو من سيتولى كفالتها، فمريم الوحيدة من بين نساء العالمين التي ذكرها القرآن باسمها، وقد أنزل الله تعالى سورة قرآنية سميت بـ “مريم”. فما هي ظروف ولادة ونشأة “مريم” العذراء؟ وما هي أهم المعجزات التي عاشتها هذه السيدة الخالدة؟

مريم: الولادة والنشأة

هي “مريم” بنت عمران، أمها “حنة بنت فاقوذ”، فالوالد “عمران” كان من أشد الناس اتساما بالصلاح والتقوى، توفي قبل ولادتها، في الوقت الذي نذرت فيه “حنة” أن تهب المولود لخدمة بيت المقدس. فجاءت المفاجأة كونها “أنثى” مما يحول والوفاء بالنذر- فبيت المقدس لا يخدمه إلا الذكور- لكن الله تعالى تقبلها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا، وكفلها النبي “زكرياء” عليه السلام، حيث نشأت النشأة الصالحة وحازت التربية المتزنة، فكان عليه السلام محافظا على مصالحها راعيا لها. وحين وصول الشابة سن التكليف أصبح لها محراب داخل المسجد لا يدخله سوى “زكرياء” عليه السلام. يقول الله تعالى: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ آل عمران: من الآية 37.

مريم: العابدة الزاهدة

ظلت “مريم” العذراء عابدة زاهدة معتزلة الأهل والأقارب في المسجد الأقصى من جهة الشرق، وكان المكان معزولا عن الناس بحجاب، يقول الله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا(16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا مريم: الآيتان 16/17.

وقد وصف الله تعالى “مريم” بالصديقة، على وزن الفعيلة وهي صيغة مبالغة من الصدق، والصديقون هم أتباع الرسل الذين لم يبدلوا ولم يغيروا، بل صاروا على نهجهم وخطاهم إلى أن لحقوا بهم، والصديقية مرتبة عظيمة تأتي بعد مرتبة النبوة مباشرة. وقد اصطفى الله تعالى “مريم” لهذه المنزلة حينما قال: مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ۖ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ۗ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ المائدة: الآية 75.

مريم: الاصطفاء والانتقاء

يقول الله تعالى: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ آل عمران: الآيتان 42/43

فالاصطفاء معناه يدور حول الاختيار والانتقاء والتصفية، و”مريم” اصطفاها الله تعالى بأن اختارها لهذا المقام الأسمى، فالبيت بيت “عمران”، والكفالة لـ “زكرياء”، فأجرى الله الكرامة على يدها إكراما وإحسانا لها. قال الإمام بن كثير رحمه الله: “هذا إخبار من الله تعالى بما خاطبت به الملائكة مريم عليها السلام عن أمر الله لهم بذلك أن الله قد اصطفاها أي اختارها لكثرة عبادتها وزهادتها وشرفها وطهارتها من الأكدار والوساوس.” 1

مريم: المنزلة الرفيعة

أجمع علماء الأمة على أن “لمريم” العذراء مكانتها وفضلها عند الله تعالى، كما أخبر بذلك القرآن الكريم وورد في السنة النبوية. فقد اصطفاها المولى تعالى وطهرها واجتباها وآثرها، وجعلها من أفضل النساء وأعقلهن وأكملهن، وهذه الأفضلية اختلف فيها العلماء على ثلاثة آراء:

  • أنها أفضل نساء العالمين على الإطلاق استنادا إلى ظاهر الآية الكريمة: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ آل عمران: الآية 42.
  • أن “مريم” البتول ليست أفضل النساء على الإطلاق، وإنما هي أفضل نساء عصرها لقوله تعالى: وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ فالآية تدل على أنها مفضلة على نساء عصرها وأهل زمانها.
  • أن أفضلية “مريم” على باقي النساء يكون ضمن زمرة من نساء كُمَّل ذَكَرَتهٌنَّ السنة النبوية من خلال قوله ﷺ فيما رواه ابن عباس مرفوعا قال: قال رسول اللهﷺ: “أفضل نساء الجنة، خديجة وفاطمة ومريم وآسية” 2

مريم: البشارة المعجزة

يقول الله تعالى: إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ آل عمران: الآية 45. بعد أن بشر جبريل عليه السلام “مريم” بأنها ستكون العذراء التي ستلد نبي الله “عيسى” عليه السلام، أدركت حينها أنها حملت على عاتقها مسؤولية عظيمة، وقد يسر الله تعالى على “مريم” حملها، فكان حملا سهلا يسيرا. حتى أذن الله تعالى أن تضع مولودها على حين غرة منها. يقول الله تعالى: فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكانًا قَصِيًّا (22) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا سورة مريم: الآيتان 22/23. فمن هول الموقف وقسوة الضيق ورعب المفاجأة قالت ذلك، حيث لم يكن يأسا ولا قنوطا من رحمة الله، ولكنه تعب اعتراها وداهمها كما يعتري ويداهم أي بشر في لحظة شديدة، ولم تتأخر رحمة الله تعالى ومواساته لها ورأفته بحالها، فأنطق مولودها “عيسى” عليه السلام لتستريح وتطمئن، يقول الله تعالى: قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكًا أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا سورة مريم: الآيات30/31/32/33.

وقد أمرت السيدة “مريم” بالصوم لأمرين اثنين:

أحدهما: أن كلام “عيسى” عليه السلام – وهو في المهد – أقوى وأبلغ في إزالة التهمة عنها، وفيه أن تفويض الأمر إلى الأفضل أولى.

وثانيهما: أن السكوت عن جدال السفهاء أصون للعرض. والأصل في الصوم هو الإمساك عن الكلام. 3

وختاما فمن البديهي أن تكون “مريم ” هي المثل الأعلى لكل امرأة حرة أبية، لما اجتمع فيها من خصال عالية وصفات قل نظيرها. فهي العابدة الزاهدة، الذاكرة القانتة، القائمة الصائمة… إنها بحق تستحق أن تكون من بين أفضل نساء العالمين.


[1] كتاب: “تفسير القرآن الكريم”: 1/362
[2] رواه النسائي في السنن الكبرى،5/93، رقم 8355.
[3] كتاب: المرأة في القصص القرآني: ص: 667