دعونا في البداية، ونحن نتحدث عن مسار الحرب الجارية في غزة، نؤكد على قناعة أصبحت من المُسَلَّمات لدى معظم الاستراتيجيين العسكريين والسياسيين مفادها أن نتيجة معركة طوفان الأقصى حُسِمَت منذ يومها الأول أي في السابع من أكتوبر بهزيمة الكيان الصهيوني وتفوق وتقدم المقاومة من خلال انتقالها من حالة الدفاع إلى حالة الهجوم. فالنجاح الباهر الذي شهده الهجوم على غلاف غزة وما حققه من إنجازات تتلخص في اختراق مواقع عسكرية، والاستيلاء على بنك معلومات استخباراتية، وأسر لعشرات الجنود، أدى إلى تقويض ثلاث دعامات استراتيجية تأسس عليها الكيان الصهيوني الغاصب وتتمثل في:
– تقويض دعامة الأمن الوجودي المشجع على هجرة المزيد من اليهود الصهاينة وضمان بقائهم واستقرارهم،
– تقويض دعامة التفوق العسكري المحقق لكل شروط الهيمنة والردع في المنطقة.
– تقويض دعامة التفوق الاستخباراتي الذي كان يُقَدَّم للعالم على أنه جهاز يخترق كل الأنظمة ويستبق كل المخططات ويتحكم ويُحَدِّد معالم كل الأحداث التي تجري أو ممكنة الوقوع في المنطقة. لقد تمكنت المقاومة من خلال معركة طوفان الأقصى أن تُظهِر الكيان الصهيوني على غير صورته النمطية وتكشف حقيقة ضعفه وتُسقِط جميع المقولات التي كان يُسَوَّقُها عن نفسه من قبيل الجيش الذي لا يقهر، والاستخبارات التي لا تخفى عليها من العالم خافية.
إن السابع من أكتوبر وما حمله من تداعيات استراتيجية، كان لحظة فارقة في تاريخ المقاومة، وكان منعطفا جديدا في مسار القضية الفلسطينية حيث أخرجها من دائرة التهميش إقليميا ودوليا وجعلها قضية كل العالم، كما أفشل كل المخططات التي كانت تحاك ضد الشعب الفلسطيني بعد الإعلان عن صفقة القرن، وانطلاق مسلسل التطبيع، وبدء الإعداد لشرق أوسط جديد تلعب فيه “إسرائيل“ دور القائد الإقليمي في المنطقة، وكل هذا لا يمكن أن يتحقق إلا بتصفية القضية الفلسطينية إما عن طريق المساومة أو عن طريق القضاء على المقاومة. فكانت معركة طوفان الأقصى عملية استباقية وحرب استراتيجية ساهمت من جهة في تعطيل كل مخططات التصفية التي باركتها الأنظمة العربية المطبعة، وساهمت من جهة أخرى في إعادة القضية الفلسطينية إلى واجهة المنتظم الدولي. هكذا وبعد مرور 100 يوم عن الحرب على غزة، وبعد سقوط ما يقارب 24 ألف شهيد، وما يناهز 10 ألاف مفقود، وما يزيد عن 55 ألف جريح، وتدمير آلاف المباني العمرانية، ونزوح مئات الآلاف من شمال غزة نحو جنوبها، واستهداف كل المرافق المدنية بما فيها المستشفيات والمدارس والجامعات والكنائس والمساجد ومؤسسات الأونروا ومنع قوافل المساعدات، لم يحقق الجيش الصهيوني أيا من أهدافه التي أعلن عنها عبر وسائل الإعلام والمتمثلة في:- تحرير الرهائن- القضاء على حماس- إقامة سلطة إدارية منزوعة السلاح في غزة أما الهدف الميداني غير المعلن عنه والذي كان ولا زال يصبو إليه الجيش المجرم من خلال آلة تدميره الهمجية فهو تخيير أهل غزة بين الموت على أرضهم أو الهجرة إلى سيناء. فأمام هذا العجز العسكري الصهيوني الغربي، وأمام الصمود الأسطوري للمقاومة الفلسطينية في غزة على كل جبهات القتال، وأمام فشل العملية البرية وتكبد العدو خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، لم يجد الجيش “الأكثر أخلاقية” كما يحلو له تسمية نفسه، بُدّاً من استهداف الأطفال والنساء ورفع الكلفة البشرية للدفع بالحاضنة الشعبية للمقاومة إلى الانقلاب عليها وإرغامها على ترك أنفاقها ووضع سلاحها حفاظا على الأرواح والممتلكات وضمانا لحياة كيفما كانت هذه الحياة، وهو الأمر الذي لم يتَأتَّ لجيش الحَفَّاظَاتِ، ما جعله متورطا في حرب استنزاف لا قِبَلَ له بها، ليبقى أمامه حل وحيد يمتلك قراره، هو الانسحاب من غزة وهو يجر أذيال هزيمته التاريخية.
وفي خضم 100 يوم من الحرب على غزة وصمود مقاومتها، استفاق ضمير العالم واستعادت الشعوب وعيها وصحت من غفوة الكذبة الصهيونية في معظم عواصم العالم، وانكشفت حقيقة “إسرائيل الضحية“، وعبَّرت المسيرات والوقفات التضامنية مع فلسطين والمقاطعات للبضائع والمحلات والشركات الداعمة للكيان الصهيوني عن مطالبة كل أحرار العالم بإنهاء الاحتلال الصهيوني وتحرير فلسطين من النهر إلى البحر حيث تَرَدَّدَ في كل أنحاء العالم شعار:
“Palestine will be free from the river to the sea“
لم يتوقف الدعم العالمي لفلسطين عند الحراكات الشعبية بل تعداه ليشمل دعما دوليا رسميا من خلال رفع دولة جنوب إفريقيا دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية ضد الكيان الصهيوني متهمة إياه بنية الإبادة الجماعية في حق الشعب الفلسطيني الأعزل. وهذه الخطوة غير المسبوقة التي دعمتها عدة دول لا تقل أهمية عن معركة طوفان الأقصى التي قوضت كما أشرنا عدة دعامات استراتيجية، فكذلك تعد هذه المحاكمة لحظة فارقة في تاريخ الكيان الغاصب كونه يَمثُل لأول مرة كدولة أمام محكمة دولية، ويُرغَم على وضعه في حالة دفاع تماما كما كان حاله إبان معركة 7 أكتوبر، وتوجه له تُهَمُ جرائم حرب بعدما كان يُعَربِد طيلة 75 سنة على قرارات المنتظم الدولي ومؤسساته. صحيح أن أحكام محكمة العدل الدولية لن تكون ملزمة كما هو الشأن في حرب روسيا على أوكرانيا، لكنها ستُخرِج الكيان الصهيوني من دور ضحية الهولوكوست الذي قُدِّمَ للعالم كتبرير لاحتلاله أرض فلسطين، إلى مجرم هولوكوست يتوجب عليه ترك الأرض لأصحابها، ومن ثم فإن محكمة العدل الدولية إن هي قضت شكلا واستعجالا خلال الأيام القابلة، بوجود نية الإبادة الجماعية لدى الجيش الصهيوني المجرم، فإن هذا الحكم سيكون بمثابة منعطف آخر في تاريخ القضية الفلسطينية، وسيكون له الأثر البليغ في تغيير المناخ السياسي الدولي تجاه ما يسمى “دولة إسرائيل”، وسيفقد هذا الكيان رابع دعامة لتأسيسه ألا وهي التعاطف الشعبي الغربي مع حق اليهود الصهاينة في وطن آمن ومستقر، والذي كان وليد تأنيب الضمير الأخلاقي جراء “محرقة الحرب العالمية الثانية”.
فشتان بين جنوب إفريقيا التي ذاق شعبها وساستها وقادتها وبال الميز والقهر العنصري من لدن نظام الأبرتهايد المجرم، والكيان الصهيوني الذي يَدَّعي أن قادته وساسته وشعبه المؤسِّس كانوا أو كان أباءهم من الناجين من المحرقة. ووجه الفارق هنا، أن الذين عاشوا حقا الميز العنصري وتذوقوا مرارته وخبروا تداعياته، هبوا إلى نصرة شعب لا تربطهم به سوى الإنسانية والمعاناة المشتركة، فوضعوا مبادئهم وقيمهم الأخلاقية فوق كل المصالح الاقتصادية. أما الكيان الجرثومي الذي يدعي تعرضه للمحرقة، ويدعي تعرضه للإبادة الجماعية من قِبَل النازية والفاشية الغربية الأوروبية، فهو يمارسها في حق شعب بريء لا علاقة له بها. فما الفرق بين أن تُحرَقَ داخل فرن غازي أو أن تَحرِق غيرك بالقنابل العنقودية والفوسفورية، النتيجة واحدة هي الإبادة. فلو كان يهود الغجر الذين حكموا ويحكمون الكيان ممن عاشوا المحرقة النازية لما سمحت لهم أنفسهم فوبيا المحرقة بإعادتها وارتكابها في شعب فلسطين البريء على مر 75 سنة. ولأن الكيان الصهيوني بكل مكوناته هم أنفسهم نازيون بالطبيعة والوراثة الجينية لن يفوتوا أي فرصة في ممارسة هواية القتل التي ورثوها أبا عن جد والمستمدة من كتاب “العهد القديم”.
في مقابل كل هذا الحراك العالمي تصطف الدول الغربية إلى جانب الكيان الغاصب، وتعطيه الحق في تصفية المقاومة، وتسمي ذلك دفاعا عن النفس، مع تزويده بالمال والسلاح والخبرة والمعلومات، وتأمين ظهره وحمايته من مغبة توسع دائرة وجبهات الحرب، ناهيك عن شل كل قرارات مجلس الأمن الداعية إلى وقف الحرب أو إدانة “إسرائيل“ عبر استخدام ورقة الفيتو. أما آلتها الدبلوماسية فكما تابعنا لم تتوقف عن جولاتها المكوكية بين عواصم المنطقة والإقليم لحملها على تقبل الوضع والسكوت عن فظاعاته، وإرغامها على المشاركة في حل الوضع الراهن، والمساهمة في مرحلة ما بعد الحرب.
وبناء على كل ما سبق يتبين أننا إزاء تحولات استراتيجية ستُحَدِّدُ معالمَها نتيجة معركة طوفان الأقصى، ونتيجة محكمة العدل الدولية، وأيضا يقظة الضمير العالمي وما سيكون له من تأثير في اختيار الرؤساء والحكومات خاصة في الدول المسماة ديمقراطية، بحيث أن الشعوب الغربية قد أصبحت واعية بخطورة الأحزاب والحكومات الموالية للصهيونية العالمية وما يترتب عن ذلك من خرق للقيم الإنسانية وهدر لأموال الشعوب في دعم كيان مجرم على حساب المصالح الوطنية. أما شعوبنا العربية فقد أسقطت آخر ما تبقى من آمال ضئيلة في الحكام العرب وحكوماتهم، وتيقنت بما لا يدعو شك أن هذه الأنظمة هي مجرد مقاطعات ذيلية للصهيونية اللبرالية العالمية، وأدوات طيِّعة في يدها تستعملها لإسكات الشعوب من جهة، وتصفية أم القضايا فلسطين من جهة أخرى. فلا مناص إذن لتحرير فلسطين من توسيع جبهة المقاومة، واعتبار فلسطين هي الجبهة الأمامية لمجابهة الصهيونية العالمية وأن باقي الدول تمثل الجبهة الخلفية لهذه المواجهة. ولئن كان دور المقاومة الفلسطينية هو المجابهة العسكرية، فإن دور باقي دول العالم هو إسقاط الأنظمة السياسية الداعمة في السر والعلن للصهيونية العالمية سواء كانت هذه الأنظمة عربية أو غربية.
إن ما يدفعنا إلى التفاؤل المفرط حول مستقبل فلسطين رغم كل الدمار الذي تعيشه والمخططات التي تحاك ضدها، والتخاذل الذي تتجرعه، هو وضوح الطريق نحو التحرير، ووضوح العقبات الواجب اقتحامها، ووضوح الآليات الواجب استخدامها، ووضوح مسؤولية الشعوب تجاه هذه القضية الأمانة، واقتناع كل أحرار العالم أن الصهيونية اللبرالية العالمية أضحت خطرا كبيرا على الإنسانية في كل مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، وما دامت “إسرائيل“ هي سم أفعى الصهيونية العالمية، فلا سبيل للقضاء عليها إلا بقطع رأس الأفعى وتخليص العالم من سمها الزعاف، صحيح أن الهدف ليس بالهين، لكن الضرورة ملحة والإرادة أقوى… إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا.