القرآن الكريم هو كلام رب العالمين، وحبله المتين، وهو الذكر الحكيم، المنزل على خاتم الأنبياء والمرسلين، وسيد الأولين والآخرين، سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، المعجز بلفظه ومعناه، والخالد المحفوظ من كل تصحيف أو تحريف، بحفظ أهله أهل الله وخاصته، والمنقول بالتواتر جيلا عن جيلا، ليكون للأمة دستورا ومنهاجا، وللأفراد زادا ونورا، “وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم 1.
فكيف نعيش ونحيا مع القرآن وبالقرآن؟
إدمان تلاوة القرآن جلاء صدأ القلوب
بوب البيهقي في شعب الإيمان، فصلا أسماه “إدمان تلاوة القرآن” أورد فيه حديث ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن هذه القلوب تصدأ، كما يصدأ الحديد” قيل: يا رسول الله، وما جلاؤها؟ قال: “تلاوة القرآن“ 2.
وكيف لا تلين القلوب وتتطهر وتطمئن وهو كلام الله ونوره الذي يغذي الروح ويرفعها لمقامات القرب، كيف لا وهو أفضل الذكر و”بذكر الله تطمئن القلوب”، كيف لا والبشارات تثرى على المؤمن وهو يتلوه ويعكف عليه فردا، وفي الجماعة، فقد روى أبو داود رحمه الله بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده” 3.
تلاوة القرآن والعكوف عليه والاهتبال به شرط أول، ومدارسته لتعلم معانيه وتحصيل علومه شرط ثان، من استوفاهما حاز البشارات. ولا بد من الشرطين ليحصّل المؤمن مزيدا من الإيمان، ومزيدا من النور. يتلو المؤمن القرآن ويحرص على حضور قلبه في القراءة، حتى لا يكون ممن أخبر عنهم المصطفى المعصوم صلى الله عليه وسلم: “يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم” 4، أو ممن أخبر عنهم أصحابه رضوان الله عليهم “ينثرونه نثر الدقل” وهو التمر الحشف اليابس.
وذلك لأن قراءة القرآن وتلاوته آناء الليل وأطراف النهار وإن كانت عبادة وأي عبادة، فإنها عبادة لما بعدها؛ فمن أهم مقاصد تلاوة القرآن العمل به والتخلق بأخلاقه، لأن القرآن الكريم جامع العلوم والحكم، وهو دستور الأمة ومنهاج حياتها، وبه صلاح أفرادها وجلاء همومهم، وكمال خلقهم، وتمام فلاحهم، ولذلك كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: “اقرءوا القرآن، وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة” 5.
التخلق بأخلاق القرآن والعمل بأحكامه
وصف الله تعالى خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه: وإنك لعلى خلق عظيم، ولما سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن تفصيل هذا الخلق، ومن أين لنا به بعده صلى الله عليه وسلم وهو القدوة والأسوة، قالت “كان خلقه القرآن” 6، وهي بذلك تبين رضي الله عنها أنه عليه الصلاة والسلام نال بالوصف الإلهي العظمة والرفعة لأنه كان قرآنا يمشي على الأرض، يرضى لرضاه، ويسخط لسخطه، وكانت تعاليم القرآن وآدابه وأوامره ونواهيه تتجلى فيه عليه السلام.
كما امتدح سبحانه الصحابة الذين صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم وحفظوا منه القرآن الكريم وتشربوا منه معانيه، فقال عز من قائل: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم 7، سطع فيهم نور القرآن فأرشدهم وهم (في جاهليتهم) الجفاة الطغاة، المتكبرين والمفسدين المعتنقين أقبح العادات، والمشتغلين -عن تحصيل المعارف وتهذيب النفوس- بالحروب الداخلية، والمفاخرات الجاهلية، فجعلهم -إلى جانب القوة والشدة المطلوبة على الكفار- رحماء بينهم، تشع بينهم المحبة، وتجمعهم الصحبة، حتى أنهم يؤثر أحدهم حياة صاحبه على نفسه، ويحب له وجوبا كما يحب لنفسه.
فاستحقت تلك الأجيال أن تكون بحق أجيالا قرآنية، إذ كان أول ما دخل جوفَها القرآن، وأعز كتاب عندها في سويداء القلب القرآن، به يسترشد الحائر، وفيه يبحث السائل، ومنه ينهل الطالب. وبه نغنم وننجى إن نحن أخذنا الكتاب بقوة، وكان هو أساس البناء الذي نشيده وجوهره، إذ متى كان أساسُ بناء المسلم القلبيِّ والفكريِّ كتابَ الله عز وجل، فلا محالة ينعكس فضل القرآن ونوره على حياته.
قال الإمام الغزالي: “وعلى الجملة فالأخلاق التي ورد بها القرآن لا ينفك عنها علماء الآخرة لأنهم يتعلمون القرآن للعمل لا للرياسة، وقال ابن عمر رضي الله عنهما لقد عشنا برهة من الدهر وإن أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن وتنزل السورة فيتعلم حلالها وحرامها وأوامرها وزواجرها وما ينبغي أن يقف عنده منها ولقد رأيت رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحة الكتاب إلى خاتمته لا يدري ما آمره وما زاجره وما ينبغي أن يقف عنده ينثره الدقل” 8.
ولا شك أن القرآن الكريم هو ما يصلح شأن هذه الأمة وينهضها من سباتها، وينقدها من غفلتها وجفوتها وبعدها عن الدين وعن أخلاقه وقيمه ومبادئه، كما أصلح حال من سبقهم، شريطة أن يتلوه حق تلاوته، فيتعلمون حلاله وحرامه وأوامره وزواجره، وأن يقفوا عند حدوده وأحكامه، فيقرأ المؤمن وتقرأ المؤمنة كلام الله تعالى العليم الخبير الحكيم، ويحرصان على حضور القلب، ليتطهر من الآفات الباطنة كالحسد والبغض والأنانية والتكبر، كما يحرصان على خضوع الجوارح لأحكامه والوقوف عند حدوده، فلا تبطش اليد بسرقة أو ضرب أو نصب، ولا تمشي الرجل إلى مواطن الفتنة والفجور ولا تخطو مع رفقاء السوء، ولا تتبع خطوات الشيطان، ولا تسمع الأذن مجونا ولا تستلذ نميمة أو غيبة، ولا تنظر العين إلى محرم من شهوات البطن أو الفرج أو غيرهما، ولا تتطلع النفس إلى شيء من ذلك.
مسك الختام
هما إذا مطلبان لا ثالث لهما لتستقيم حياة الإنسان ويحيى حياة طيبة، إدمان تلاوة القرآن ومدارسته وفهم معانيه، والتخلق بأخلاقه والعمل بأحكامه وما جاء به، إذا ما التزم بهما المؤمن فكرا وقولا وعملا، نال القرب من الله عز وجل، وحاز الدرجات العلا، وفاز بمحبته سبحانه؛ ومهما تحقق ذلك أحبه أهل السماء والأرض، ووضع له القبول في الأرض.. وفي ذلك فلتنافس المتنافسون.
فليحرص كل واحد منا على أن ينافس أخاه في القرآن الكريم، من خلال:
* الإكثار من قراءته، والاستماع إليه، حتى يحصل الإدمان عليه.
* الحرص على مدارسته في مجالس العلم والإيمان، حتى يحصل الفهم والعلم به.
* التنافس في حفظه وتعلمه وتعليمه للناشئة وهو خير صدقة جارية، وخير علم ينتفع به.
* التخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه، حتى يصير المؤمن قرآنا كما كان صلى الله عليه وسلم وهو القدوة.
* العمل به والاحتكام إليه، حتى يصير المؤمن يحل حلاله ويحرم حرامه ويأتمر بأمر وينتهي بنهيه.
* الدعوة إلى هدي القرآن ورسالة القرآن، وسبيل القرآن، حتى تصل رسالته العالمين.
[2] حديث رقم: 1953.
[3] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، حديث رقم: 4973.
[4] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب إثم من راءى بقراءة القرآن أو تأكل به أو فخر، حديث رقم: 4772.
[5] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، فصل في إحضار القارئ قلبه ما يقرؤه والتفكر فيه، حديث رقم: 1978.
[6] أخرجه أحمد في مسنده، مسند الأنصار، حديث السيدة عائشة رضي الله عنها، حديث رقم: 24736.
[7] سورة الفتح، الآية: 29.
[8] الغزالي أبو حامد، إحياء علوم الدين، دار المعرفة، بيروت، 1/76.