كلما تصفحت كتب السيرة النبوية على غزارة معلوماتها وكثرة أخبارها وروعة أحاديثها أجدني أجمع مختصر هذا وتطويل ذاك وإشارة هذا وتوضيح ذاك، فأرتب وأسدد وأقارب وأجمع وأنسق حتى تكتمل لدي الصورة في أبلغ مشهد وأروع نسج.
هكذا هو الحال مع بدر ومع رجالات بدر، كيف تمر بنا الذكرى دون الوقوف على صناعها، وكيف تمر بنا دون رؤية قدرة الله وتأييده لجنده، ودون مشاهدة الكون بأسره يتفاعل مع جند صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
في بدر أسقط الله المطر الخفيف ليؤيد جنده المؤمنين، وفيها أنزل الله جنده السماوي آلافاً مؤلفة منزلين ومردفين ومسومين، فأمرهم أن يضربوا فوق الأعناق وأن يضربوا منهم كل بنان، أجل لا حظت هذه المعية الربانية سارية مع المؤمنين متدفقة من قلوبهم مترجمة على أفعالهم حتى صارت الحصى المرمية قذاة في عين كل مشرك.
إن المؤمن ما إن يصدق الله يرى الله معه ويسخر له كونه يخدمه ويطوي له الأرض طيّاً.
إني أطل على بدر فأرى صفوفاً قد صفَّت على قلتها، وجنوداً قد شدت على عزائمها وخاضت لجج البحر معلنة لنبيها أن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، وما خاب جند معهم الله ورسوله لا والله.
بينما أرى في الجهة الأخرى وقد امتلأ الوادي بضجيجهم وغناء قيانهم ونفرت الطير من ضرب طبولهم، جماعات وجماعات الكل له صنم مرفوع، ومجد مأمول، وشرف مبتغى، وسيادة مرجوة، وحقد مدفون وبغض معلن، شتات من الأهواء.
بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ[الأنفال: 47]
ما بين الفريقين بعد يذكر هو رمية قوس، ها هم قد اصطفوا للقتال وهم بعدِّهم وعديدهم وخيلهم ورجلهم وباطلهم.
وفئة قليلة بالعدد والعدة والخيل والركاب، ليس هذا يعنيني …
ما شدَّ انتباهي بعدما اصطف الجيشان ورأيت هؤلاء وهؤلاء وجنونهم قلت على ماذا يقاتل هؤلاء وهؤلاء؟
ما أخرج هؤلاء من المدينة في قلة ليواجهوا هذه الكثرة المتفرعنة.
يقاتل من في العدوة الدنيا من أجل دينهم وربهم وحقهم وكرامتهم ونصرة لنبيهم ورسالته، لا يبالون بمن في طريقهم حتى ولو كان الموت مصيرهم.
بينما أهل العدوة القصوى الذين ساقوا معهم الخمر والقيان والمعازف ليشهروا بين العرب خروجهم يقاتلون من أجل حظوظ نفسية وأهواء شيطانية وآلهة هبلية متعددة كل منها لشأن ولقضاء حاجة، وأعظم حاجة لديهم وهي مقدمة على الإله والآلهة هي هوى النفس وما تسر به من حظوظ الدنيا.
على الباطل كانوا يقاتلون، وبين الحق والباطل كان الصراع والقتال والخصام بين الفريقين.
قال تعالى: هَٰذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ[الحج: 19]
وإني اليوم أرى هذا الصراع قائماً لم ينتهي، وأرى الفريقين دائماً يتواجهان، الكل خصم للآخر وليس هناك من وسط، لا يغريك الباطل بتمويه باطله وتزيف صورته فبعدته وعتاده قد يطمس الحقائق ويزيف الوقائع ويحجب النظر عن الناظر، ولكن الحق مهما كانت مسالكه ضيقة وطرقه موشكة، فله الغلبة والظفر مهما علت سطوة الباطل .
لقد اخترت الحق وجمع النبي صلى الله عليه وسلم وعزمت على المواجهة.