7 أكتوبر؛ شروق استثنائي

Cover Image for 7 أكتوبر؛ شروق استثنائي
نشر بتاريخ

ذلك السبت، ولم أهتمّ حينها طبعا بترتيبه ضمن سُبحة شهر أكتوبر إلا فيما بعد، حين سيغدو السابع منه ذكرى تاريخية مقدّسة، أو شبه مقدّسة، عند أمثالي من المستضعفين، ذلك السّبت شغّلتُ التلفاز بعد عودتي من صلاة الفجر مباشرة لأعرف، كما أقول دائما في مثل هذا المقام، “الذي فعله الله تعالى في ملكه”. وجدتُ قناة الجزيرة تنقل وقائع هي نفسها لم تعرف كيف توضّحها لمشاهديها، لأنّها لم تكن تع، شأن كلّ مصدوم، فرادتها وخطورتها. كانت جميع المَشاهد تُرافق الشّمس في شروقها. وأتذكّر ـ لله ثمّ للتّاريخ ـ أنّ أجمل مشهد ثارني لحظتئذ، وما يزال لحدّ الآن، وسيبقى دائما، هو مشهد طيران رجال المقاومة نحو عين الشّمس بوسائل بسيطة متواضعة. وفيما بعد، حين اجتمعت بين يديّ نصوص قصصيّة تُشكّل مجموعة، سمّيتها “شروق”، وقّررتُ أن أضع صورة ذلك الشروق الاستثنائي على غلافها. كان الأفق متوّهجا دون نار كما قال الشّاعر الكبير، الفرق أنّ مَن جلستْ، في قصيدة السّياب، زمن رحيل النّهار، تنتظر عودة سندبادها من السّفار نُصِحتْ بأن ترحل لأنّه لن يعود، بينما قعدتُ أنا، وقت ميلادِه، أستشرف ما الذي سيتمخّضُ عنه. الفرق الثّاني أنّها صمدت رغم أنّ البحر كان يصرخ من ورائها بالعواصف والرعود، بينما ـ أعترف ـ أنّ النّوم غالبتُه فغلبني، ولم استيقظ إلا وقد اكتملت الصّورة مُشكّلة ابتسامة نبويّةً قلّ ما يجود بها التّاريخ على البشرية.

كان أوّل ما عرفت أنّ ما يحدث شيء خارق وغير مسبوق ليس في تاريخ فلسطين، ولكن في تاريخ كل المقاومة، سمعت هذا من أفواه الكثير من المعلّقين، ثمّ علمتُ أنّ الهجوم كان تحت شعار “طوفان الأقصى”؛ والعُنوان وُجد ـ في العادة ـ ليُلخّص الرؤية والتصوّر والفلسفة، وكذلك كان.

سمعتُ محمد الضّيف، القائد القسّامي الشّهم الشّبح، يشرح، مختصرا، سبب هذا التّحرك، ويعلن بداية “الطوفان”، ثمّ قرأتُ أنّه قال: “اليوم يتفجر غضب الأقصى، وغضب أمتنا، ومجاهدونا الأبرار هذا يومكم لتفهموا العدو أنه قد انتهى زمنه.. نفذوا هجماتكم على المستوطنات بكل ما يتاح لكم من وسائل وأدوات”، ثمّ أضاف: “اليوم كل من عنده بندقية ليخرجها، هذا أوانها، وليخرج كل منكم بشاحنته أو سيارته أو بلطته، اليوم يفتح التاريخ أنصع وأشرف صفحاته”.

وكان ممّا دعا إليه؛ أن تلتحم “المقاومة الإسلامية في لبنان والعراق وسوريا واليمن مع مقاومة فلسطين”، ولكنّ هذه المقاومة كان لها حسابات أخرى؛ إذ قدّرت أن تتحرّك ضمن دائرة “المساندة”، وليس ضمن “وحدة السّاحات”، وربما كان هذا من جملة الأخطاء التي ارتكبتها، وستدفع ثمنا باهظا جدا بعد ذلك بحوالي عام، حين سيهجم العدو على المقاومة اللبنانية وسيغتال الكثير من قادتها البارزين، وعلى رأسهم الأمين العام حسن نصر الله، في وقائع دراماتيكية غير متوقّعة.

زار بلينكن، وزير خارجية أمريكا، الكيانَ، وأعلن، والحزن يعلو مُحيّاه، أنّه قَدِم للتّضامن باعتباره يهوديا أولا، ثُمّ شُكّل مجلسٌ تولى تدبير الهجوم على غزّة، بعد أن أُعلن عن الحرب. لم يترك لهم الطوفان أي خيار غير ذلك؛ فالضّربة كانت موجعة جدا مرّغت كبرياء مَن يملكون بين أيديهم مفاتيح الحلّ والعقد في العالم بشكل غير مسبوق أبدا منذ تأسيس كيانهم الغاصب. كانت الخبطة من القوّة والإهانة بأسلوب لا جواب يوازيها، ولكن الحرب يمكن أن تشفي بعض غليلهم، خاصّة وأنّ “الرب” ـ حاشاه ـ كما هو مذكور عندهم في توراتهم المزوّر، يأمرهم بالانتقام وإعمال السّيف في كلّ مَن يتجرأ عليهم.

مع توالي أيام “طوفان الأقصى”، وتسارع الهجوم الصهيوني ووحشيته، كان أوّل سؤال أعدتُ طرحه على نفسي: ما العلاقة بين أمريكا وإسرائيل؛ من يحكم في مَن؟

لسنوات طويلة عشتُ حائرا بين رؤيتين؛ رؤية عبد الوهاب المسيري الذي يعتبر “إسرائيل” مجرد “جماعة وظيفية” ضمن تشكيلة الغرب الاستعمارية، وبين الرؤية السّائدة التي ترى عكس ذلك؛ فهي تؤكّد على علو “العقل الصهيوني” وتقمّصه “للجسد الغربي”. لم أكن أستطيع الميل لإحداها، فلكلّ واحدة منهما قوّتها الوصفية والإقناعية. اليوم أقول ما يقوله الأستاذ عبد السلام ياسين في كتاب “سنّة الله”؛ إذ “يغلط الناس حيث يظنون الكيان الصهيوني في فلسطين أداة سياسية عسكرية في يد الدولة العظمى تؤمن بها مصالحها. الناظرون في العمق يدركون أن العكس هو الصحيح. الدولة العظمى دولة مسكونة، سكنتها الروح اليهودية من قديم، فهي تحركها وتقيمها وتقعدها على الوتيرة التي تشاء، وفي الاتجاه الذي تشاء، وبالمقدار الذي تشاء، وفي الزمن الذي تشاء“ (ص: 126).

حينما دخل الصهاينة برّيا إلى غزّة شاهدنا جميعا المعنى الحقيقي للرّجولة؛ مواقف لم نكن نقرأ لعُشرٍ منها سوى في كتب الأبطال الخارقين ومتون سيرة الأنبياء وحوارييهم، ولم أجد ـ شخصيا ـ اسما يُعبّر عن هذا الذي كنتُ أشاهده بشكل شبه يوميّ، هو ليس معجزات، ولكنّه قريب منها، وفوق الكرامات بمسافة. 

كنتُ أعلم جيّدا أنّه لم يحدثْ أبدا، ومطلقا، حسب التاريخ المكتوب، أن حصلتْ تحوّلاتٍ وانعطافاتٍ كالتي يطلبُها مستضعفو الأرض ـ ونحن منهم، بل نحن أوسطهم ـ بدون حروب. هي قادمةٌ لا محالةَ، لأنّ الباطلَ ـ وهذا هو السبب الرئيسي ـ يَـسْـتَـبْـسِلُ في الدّفاع عن مواقعه، ويرفضُ أن يقتسمَ المصالح مع غيره. الجديد أنّ الإمامةَ هذه المَرّة للأقصى ولكلّ معركة مرتبطة به.

بعض التّعابير من كثرة استعمالها من قِبَل الخاص والعام غدت شبه مبتذلة، ولا يُلتفتُ إلى قُدراتها الوصفية العميقة، على رأسها تعبير أنّ “العالم اليوم في مخاض عسير”، والكاتب الجيّد يعمل جهده على تفادي تلك التعابير التي تتحوّل إلى كليشيهات بدون روح، ولكن ما العمل إذا كان العالم فعلا “في مخاض عسير”، والذي أعطى انطلاقة هذا المخاض هو ذلك الشروق الاستثنائي؛ شروق من غزّة باسم الأقصى، وهذا شرف ـ لعمري ـ تتقاتل دونه كلّ أزمنة الأرض وأمكنتها.