في ليلة الإثنين 7 مايو 1990 عزمت رفقة بعض إخواني على السفر من مدينة فاس، حيث كنت أتابع دراستي بقسم الباكلوريا بثانوية ابن خلدون، إلى مدينة الرباط لحضور محاكمة أعضاء مجلس الإرشاد بجماعة العدل والإحسان: محمد العلوي السليماني، محمد البشيري (رحمهما الله)، محمد عبادي، فتح الله أرسلان، وعبد الواحد متوكل، بالإضافة إلى عبد الله الشيباني صهر الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى.
استأذنت والدتي حفظها الله بالمبيت عند أحد الإخوة (عبد الرحمان ق.) حيث قضينا الليل متوجهين متضرعين إلى المولى عز وجل ومستبشرين برسائل الغيب في جلسة قص الرؤى إحياء لسنة الحبيب صلى الله عليه وسلم. وكانت أول مناسبة أقص فيها على إخواني رؤيا رأيتها في تلك الليلة المفعمة بنور القرآن، فقد رأيت فيما يرى النائم أني مار، أنا وأخي الشقيق نجيب، بجانب سجن فرأيت السجناء في ساحة كبيرة، فقلت لأخي سوف أزورهم فسألني وهل تعرفهم؟ وأجبته بأنهم إخواني، توجهت إلى المساجين وسألتهم عن الأستاذ البشيري رحمه الله فأشاروا إلى رجال يلبسون ثيابا بيض، فبدأت أرفع يدي لتحيتهم وأنا ابكي وأدعو لهم بالصبر و الثبات ثم انصرفت.
بعد جلسة قص الرؤى رتبنا أمور السفر و توجهنا فجر الثلاثاء إلى المحطة الطرقية باب أبي الجنود، هناك التقيت ببعض زملائي في الدراسة تعانقنا من شدة الفرح وركبنا الحافلة متوجهين إلى الرباط رافعين دعاء السفر.
في الطريق إلى العاصمة انتصبت حواجز الأمن والدرك، وتم إنزال جل الإخوان واعتقالهم، ولم يبق في الحافلة إلا بضع أفراد. فانتابني شعور بأن العدد سيكون ضعيف جدا أمام المحكمة.
وصلنا إلى العاصمة وافترقنا في أزقة المدينة القديمة بعيدا عن أعين الأجهزة الأمنية، في انتظار الالتحاق بالمكان المحدد سلفا.
في تمام العاشرة – حسبما أتذكر – من صبيحة الثلاثاء 8 ماي 1990 التحقنا بمحطة حافلات النقل الحضري بباب الأحد، ثم شرعنا في رص الصفوف مثنى مثنى ثم انطلقنا بشكل منظم جدا في اتجاه شارع محمد الخامس، وما إن وصلنا إلى محطة القطار الرئيسة المحادية للمحكمة حتى رأيت أفواجا من الإخوان تحج من كل اتجاه مثنى مثنى وسيارات الشرطة تسير في كل اتجاه مطلقة صفارات الإنذار في محاولة لإخافتنا.
امتلأ شارع محمد الخامس بأبناء جماعة العدل والإحسان والمتعاطفين معها، في أول إنزال منظم وسلمي عرفته العاصمة، بشهادة مراقبين، وبدأ بعض المواطنين المتجمهرين يلتحقون بصفوفنا مما حدا بالأجهزة الأمنية السرية والعلنية بإبعادهم ومنعهم من الالتحاق بنا.
رصصنا صفوفنا وانشغلنا بذكر الله وتلاوة القرآن الكريم في انتظار وصول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله كما أخبرنا آنذاك، انتابني فرح شديد برؤية تلك الوجوه الطافحة بالبشر أولا، بعدما ظننت أن العدد سيكون ضعيفا وكانت سعادتي أكثر لأنني سوف أرى رجلا أحببته قبل أن أراه إنه الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله.
سيبقى يوم الثلاثاء 8 ماي 1990 يوما مشهوداً في التاريخ المغربي المعاصر، حيث استطاع تنظيم ناشئ(جماعة العدل والإحسان)، قيادته (مجلس الإرشاد) معتقلة ومحاصرة أن ينظم إنزالا سلميا في أهم شارع (محمد الخامس) قرب أهم مؤسسة (البرلمان) في أهم مدينة (الرباط)، وفي أهم يوم حيث يستعد الملك للإعلان عن تأسيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان. إنه قدر الله، فالدولة هي التي اختارت تاريخ المحاكمة وليس قيادة الجماعة من اختارته.
بدأت أجهزة المخزن بكل أشكالها، بل إن بعضها لم يسبق لي أن شاهدتها، تعتدي على الصفوف الأولى بالضرب والسحل ونحن نردد “الله أكبر”، “حسبنا الله ونعم الوكيل”، وتم اعتقال العديد من الإخوة ونقلهم إلى مقرات الشرطة، وتمكن البعض من الولوج إلى المحكمة وكنت أحدهم.
لم يتسع بهو المحكمة لتلك الأعداد حيث كنا نتناوب على الجلوس ويضطر أغلبنا للبقاء واقفا، وكنا كلنا صائمين. كان موظفو المحكمة والمحامين ومنهم السيد مصطفى الرميد (وزير الدولة الحالي) يطلون علينا من الطابق الفوقي وعلامات التعاطف والتضامن واضحة في وجوههم.
في هذه اللحظة دخل أعضاء مجلس الإرشاد بجلابيبهم البيضاء كما رأيتهم في الرؤيا التي رأيت، رافعين السبابة علامة اليقين في الله والثبات والنصر، اختلطت المشاعر بين الفرح والحزن بدأت أكبر وأبكي كما كنت أفعل في الرؤيا التي أصبحت رأي العين.
دخلت الأجهزة الأمنية فطوقتنا مما زاد المكان ضيقا وجاء وقت الصلاة فتم رفع الأذان وأقيمت الصلاة، ولم نجد متسعا للركوع أو السجود إلا ظهر بعضنا.
بعد أن فرغنا من الصلاة بدأ الإخوة القراء يقرؤون القرآن بالتناوب، كانت تلاوات خاشعة وكنت أشعر وكأني أسمع القرآن لأول مرة خاصة عندما كان أحد الإخوة، ولعله من الجنوب، يقرأ سورة الرحمان بصوت قوي وعندما وصل إلى قوله عز وجل فبأي آلاء ربكما تكذبان رافعا يديه إلى السماء بدأ الجميع يبكي. كانت أجواء إيمانية يعجز اللسان عن وصفها فما بالك بالقلم.
في مساء ذات اليوم، وكان معظم الإخوة صائمين والمكان ضيق والجو حار، وفجأة نزل علينا مطر خفيف، كان بالفعل رحمة من المولى عز وجل، انتعشنا من جديد وذهب عنا بعض التعب. ثم أذن المؤذن لصلاة المغرب فبدأ الموظفون والمحامون جزاهم الله خيرا يمدوننا ببعض قارورات الماء، وكان الواحد منا يضعها على شفتاه فما تكاد تسيل القطرة حتى يسلمها لمن هو أشد عطشا منه، وكانت الثمرة تقسم بين أكثر من واحد تذكرت حينها قول الحق عز وجل (ويوثرون على أنفسهم).
أدينا صلاتي المغرب والعشاء جمعا وقصرا، ورغم أن المكان لا يتسع للركوع أو السجود فقد كانت صلاة استثنائية.
كانت أطوار المحاكمة تجري في إحدى قاعات محكمة الاستئناف، وكان المحامون يخبروننا في كل مرة بالمستجدات؛ تم الحكم على أعضاء مجلس الإرشاد بسنتين نافذتين.
بقينا نحن محتجزين ونظمت لنا عمليات استنطاق من طرف المخابرات والشرطة، بعد ذلك اقتادونا في منتصف الليل تقريبا إلى محطة القطار ثم أركبونا.
داخل القطار تفرقنا في المقصورات لنتواصل مع الناس ونشرح لهم ما جرى، و نعرفهم بجماعة العدل والإحسان ومشروعها وقيادتها ونحن في قمة الفرح والسعادة.
سيبقى هذا اليوم خالدا في ذهني ما حييت، تعلمت فيه دروسا في التضرع إلى الله وذكره والقرب منه والتوكل عليه، والصبر والثبات، ومحبة المؤمنين وتعظيمهم وتوقيرهم.
أسأل الله عز وجل أن يجازي كل من ساهم في هذا الموقف، كما أسأل الله تعالى ألا يجعل للنفس ولا للهوى حظا فيه، وأن يجعل ذلك كله خالصا لوجهه عز وجل.
هذا ما تذكرت من مشاهد. وختاما أسوق لكم فقرة من موقع جماعة العدل والإحسان بمناسبة الذكرى:
“لاحقا ستكبر العدل والإحسان وتتوسع، ويزداد أعضاؤها والمتعاطفون معها، وبقدر ما سيدرك من شارك في حدث 8 ماي أنه أسهم في كتابة تاريخ الجماعة، ووضع لبنة في بناء مستقبل نصرها والتمكين لأمتها، سيدرك النظام المخزني أنه لم يفعل شيئا، سوى أن سوّد سجله الحقوقي وأكد سلوكه القمعي التسلطي، أما العدل والإحسان فماضية إلى وجهتها بإذن ربها”.