بقلم لطفي الطويل
يقول الله تعالى إِنَّ الله لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغيروا مَا بِأَنْفُسِهِمْ 1، شاءت سنة الله في الكون أن يرتبط تغيير حال قوم، أفرادا وأمة بتغيير ما بأنفسهم، لكن كيف يحدث هذا التغيير في الفرد والأمة؟ ماهي العقبات، وماهي الخطوات في ظل وباء كورونا؟ وهل الوباء فعلا فرصة ذهبية للتغيير؟
أزمة التغيير
منذ قرون والحديث عن التغيير وضرورة التغيير حاضرَين في كل النقاشات العامة أو الأكاديمية، أو التنظيرية، أو التخطيطية التنفيذية، سواء تعلق الأمر بالتغيير في الغايات والمقاصد؛ أي تغيير قلبي وجداني، أو الذهنيات والعقليات؛ أي تغيير فكري تنظيري، أو في الأفعال؛ أي سلوكي عملي، وفي وقت نجحت فيه بعض التجارب في جزئيات منها، باءت أخرى كثيرة بالفشل ولم تحقق مرادها.
هنا قبل أن أطرح سؤال كيف؟ سأطرح سؤال لماذا؟ أي لماذا يفشل التغيير، ولماذا لا تحقق التجارب المستمرة نتائج ظاهرة تنعكس على حال الأفراد وواقع الأمة؟
أرى جوابا على هذا السؤال؛ أن التجارب الفاشلة إما أنها لم تتوفر على خطة واضحة قابلة للتنفيذ، أو أنها تتوفر على خطط مستوردة إما من الماضي دون تجديد، أو من الحاضر دون تكييف، هذا فيما يخص من تعرضت تجاربه للفشل، وماذا عمن لازال ماض في تحقيق التغيير؟
بالرغم من أن بعض التجارب التغييرية لازالت ماضية بخطى ثابته، وبيقين ورحمة قلبية، وحكمة عقلية، وتؤدة في الحركة والفعل، لكن تعترضها عقبات تؤجل وتؤخر الموعد، تحتاج إلى أن تتوافق مع قدر الله، وإلى شيء من الوقت والصبر، وعدم استعجال الثمرة إلى أن تؤتي أكلها بإذن ربها، يقول تعالى أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) 2، فهذه المشاريع الثابتة، تستمد قوتها من أصلها القوي المرتبط بالفهم الصحيح للكتاب والسنة، والإرادة الجهادية لأصحابها النابعة من يقين مطلق في نصر الله، لكن لازالت بعض العقبات تمنع فرعها من أن يصل عنان السماء لتؤتي أكلها، وأهم هذه العقبات مرتبط بتاريخ الأمة، يمكن أن نلخصها، في عقبتين؛ الاستبداد -أزمة الحكم- الذي أدى إلى الاستعمار. هاتان العقبتان أو العاملان يطوقان الأمة، وفيروسان أوهنا جسمها، فجعلاها غير قادرة على القيام بأي فعل، وما التغيير إلا فعل ينبعث من إرادة أفراد تصب في حركية أمة جهادية زاحفة.
الآن أتاح لنا وباء كورونا – الذي يجمع الكل على أن العالم بعده لن يكون كما كان قبله – فرصا لتحقيق التغيير المنشود، كيف يمكننا أن نغتنم هاته الفرص التي أتيحت لنا أحسن اغتنام، أفرادا وأمة؟
النموذج النبوي في التغيير
قبل الخوض في الفرص التي أتاحها هذا الوباء المستجد، وهاته المحنة المنحة للتغيير فردا وأمة، لا بد وأن نشير إلى النموذج النبوي في التغيير.
«أليس فيكم غريب» كلمة كان يرددها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المجالس الأولى، قبل تلقين لا إله إلا الله لصحابته من أجل بناء جيل فريد، ينبني على أفراد «رجال» بالمعنى القرآني للرجولة الإيمانية الفاعلة، رجال غيروا العالم، بعد أن غيروا ما بأنفسهم من عبودية للأوتان، وتفرغوا لعبادة الله، فانجمعت بذلك أفكار العقل المشتتة، وهموم القلب المتباعدة، وحركة الإرادة غير القاصدة أو القاعدة الكسولة العاجزة، انجمع كل ذلك على الله، فنالوا النجاح في الدنيا والفلاح في الآخرة.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الاطمئنان بعدم وجود الغريب بينهم يقول: “ارفعوا أيديكم و قولوا لا إله إلا الله”، فكانت لا إله إلا الله الكلمة المجددة أول عهدهم بالتغيير، يرددونها جماعيا، وفي هذا إشارة إلى تحقيق انجماع الأمة كلها عليه سبحانه وتعالى بطريقة منظمة وموحدة، فكانت لا إله إلا الله كلمة باعثة للإيمان بمشروع تغيير النفس وتغيير الأمة، وكذلك مجددة له في ظل مخالطة المسلمين للمشركين وتأثرهم بذلك، فكانت لا إله إلا الله تحفظ الإيمان من أن يبلى، وتمكن من استمراره في القلب والفكر والحركة، ويأتي الوحي ليزدادوا إيمانا، يقول تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاته زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ 3، كما أنها كانت مثبته، تثبتهم على المضي في طريق التغيير رغم الابتلاء والاضطهاد ومحاولة الاجتثاث، وكانت النبتة التي أنبتت إرادة رجال شكلوا استثناء في التاريخ، ثم بعد ذلك مضوا في جهاد النفس، وجهاد الكلمة وجهاد المال، وبدأوا يترقَّوْن في مراتب الجهاد أفرادا وجماعة، حتى بنوا جيلا فريدا غيّر حركية العالم وأمة غيرت سيرورة التاريخ.
كورونا وفرص التغيير أفراد وأمة
الآن في ظل الحجر الصحي والتغيرات الاقتصادية والسياسية التي خلفها انتشار الوباء في العالم، كيف يمكننا أن نحقق التغيير المنشود سيرا على الهدي النبوي وتماشيا مع الواقع المستجد؟
أتيحت لنا في هذه المرحلة التاريخية التي قد لا تعيد نفسها، فرصا ذهبية للانفراد بالنفس كأفراد وللتخلص من قيود التبعية للغرب المستعمر كأمة، ليس بيننا وبين أظهرنا غريب يكدر صفو لحظة الوقوف مع الذات، لنحملها على ما تكره، والغرباء كثر في زمن الفتنة، نزوة عابرة، أو وسوسة مشيطنة، أو عادة جارفة. الآن أتاح لنا الحجر الصحي فرصة لنتقوى على الغرباء ونستفرد بأنفسنا ونحملها على التغيير، والتوبة والرجوع إلى الله أولى الخطوات، كما أن الأمة في هاته اللحظات تخلصت ولو شكليا من التبعية للغريب، إذ الآن كل القوى الاستعمارية منشغله عنا بمواجهة الوباء. أقفلت الحدود وانقطع الاتصال برا وبحرا وجوا مع العالم، فأتيحت للأمة أيضا فرصة للوقوف مع الذات بعيدا عن التوصيات الدولية، والالتزامات التبعية للقوى الاستعمارية.
فرص ذهبية للتغيير أفرادا وأمة، تلك التي أتيحت لنا في ظل تفشي الوباء، حيث بقيت أنا وأنا فردا، وبقينا نحن ونحن أمة، أي أنا القديم وأنا الجديد، ونحن الأمة التابعة الخاضعة، ونحن الأمة المغيرة الأخذة بيد الأخرين نحو الرحمة الإلهية وسعادة الدنيا والآخرة، فها هي تتاح للأمة فرصة للوقوف مع الذات، وتقييمها. فرصة لاكتشاف الطاقات والخبرات، والاعتماد عليها، فرصة لرد الاعتبار إلى ما أو دعه الله فينا كأفراد من عجائب وقدرات، وللوقوف على ما أودعه في الأمة، من طاقات وخبرات كانت مهمشة ومحاربة، فرصة لتطبيق مشاريع تغيير لذات الفرد كانت موضوعة في رفوف “سوف”، وفرصة لإقبال الأمة على التخطيط والتنفيذ لإعادة هيكلة قطاعات كانت مهمشة ولها مكانة مهمة في بناء حضارة الشعوب، كالتعليم والصحة والفكر والعلوم والبحث العلمي، ولن يكون ذلك قبل القضاء على الاستبداد الذي ينخر جسمها.
ولئن كان الوباء استطاع أن يرغم الأنظمة أن تعتمد على خبراتها وطاقاتها، وتعيد هيكلة تلك القطاعات للنجاة من الهلاك، ففإنه فرصة كذلك لانجماع الذات على الله، ولانجماع الأمة عبر التضامن والتكافل والوحدة، هو فرصة لبناء شخصية إيمانية قوية فاعلة في المجتمع وقاصدة نحو غاية واحدة، وهي ابتغاء وجه الله تعالى، فرصة للأمم لبناء تكتلات جديدة مبنية على أسس إنسانية و قيمية، تغير العالم وتخرجه من ظلمات دمار البيئة عبر التصنيع غير المقنن، الذي لا يحترم البيئة، ومن ظلمات دمار البشرية التي خلفها الصراع بين الدول العظمى على أسس مادية وجشع اقتصادي، وتنافس إمبريالي استعماري، أدى إلى حروب مدمرة، وأزمات اجتماعية (فقر، بطالة، تشرد، مجاعة، أوبئة، عنوسة، طلاق، تهميش…)
كورونا فرصة لنهضة حقيقية للأفراد وللشعوب المستضعفة، خاصة للمجتمعات الإسلامية، التي تحمل قيما إنسانية بإمكانها أن تغير العالم.
كورونا فرصة لإحداث تغييرات جذرية في الحياة بعد عدة محاولات فاشلة، أفشلتها تيارات الفتنة التي كانت تجرف الفرد المؤمن كلما حاول الخروج من دوامتها لتعيده إلى نقطة الصفر، وفرصة لإحداث تغييرات جذرية عجزت الشعوب الإسلامية أن تقوم بها، بعد عدة محاولات (ثورات، إصلاح من الداخل، نضالات فئوية، تكتلات سياسية من أجل بناء تجارب ديمقراطية…).
كورونا فرصة للتخلص من العقلية الاستهلاكية غير الإنتاجية، التي أنتجت شعوبا تبذر وتنفق أموالا طائلة على التفاهات، لأنها ببساطة لا تنتج، ولا تعرف قيمة وأهمية حسن تدبير المال.
كورونا فرصة للتخلص من ذهنيات خلفها خضوع هذه الشعوب قرونا لأنظمة مستبدة، وتبعيتها لدول استعمارية، وهذه الذهنيات، هي التي أجملها الأستاذ عبد السلام ياسين في كتابه “المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا” في ثلاث عقبات أمام التغيير أفرادا وجماعة، وهي الذهنية الرعوية التي تنتظر أن يفعل بها ولا تفعل. والعادة الجارفة، حيث أكد لنا الحجر الصحي أننا بإمكاننا أن نتخلى عن عادات كنا نعتبرها أساسية في حياتنا، تجرف بحياتنا وبسلوكنا وبمصيرنا الدنيوي والأخروي وهي تافهة. ثم الأنانية المستعلية التي يرفع أصحابها شعار «أنا ومن بعدي الطوفان». الآن، وبعد أن أصبح طوفان كورونا يهددنا جميعا، ومعه طوفان الدمار الذي خلفه تسيير القوى الإمبريالية للعالم، على هذا الشعار أن يمحى بممحاة التضامن والتكافل، ويكتب بمداد المشاركة الفعالة، البعيدة عن الحساسيات الإيديولوجية أو النزعات القبلية، أو المصالح المادية شعارا جديدا؛ “إما نتحد جميعا وإلا سيقضي علينا الطوفان جميعا”.
كورونا فرصة لن تتاح مرة أخرى. فهل نعتبر ونستفيد، ونتعظ ونفهم، وننجز ونعمل ونمضي لننفض عنا غبار الغفلة عن الله أفرادا، خلفته الفتنة والبعد عن الله، وننفض عنا غبار التخلف والانحطاط في جميع المجالات القيمية الإنسانية والاقتصادية المادية، والسياسية والاجتماعية، خلفته قرون من الاستبداد والخضوع للاستعمار.