بسم الله الرحمن الرحيم وصلى وسلم وبارك على سيد الخطباء والدعاة الذي أوتي الحكمة وفصل الخطاب كما أوتي جوامع الكلم، وعلى آله وصحبه وورثته وإخوانه وحزبه إلى يوم الدين.
أنتهز هذه الفرصة من خلال هذا الموقع الكريم لأوجه نداءا أخويا لكل دعاة العالم الإسلامي وخطبائه.
ألفت انتباه الإخوة الكرام أنه مضى على انتظامي في الخطابة أكثر من ثلاثين سنة ابتداء من 1986 م وهذه فترة كافية لتسجيل ما لدي من خبرة في هذا الشأن لا أُضن بها على إخوتي في هذا الحقل الدعوي، وسيكون جوابي متمحورا حول ثلاثة محاور أساسية:
المحور الأول: مقومات الشخصية الإسلامية المتكاملة من خلال سورة الأعلى.
المحور الثاني: نوع الخطاب الذي ينبغي توجيهه للناس.
المحور الثالث: ما لا ينبغي على الخطيب والداعية إغفاله.
المحور الأول: مقومات الشخصية الإسلامية المتكاملة من خلال سورة الأعلى
من صفات المؤمن الحق أنه لا يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه، ومما يجب ألا يغفل عنه كل مسلم ذكر كان أو أنثى، واجباته اتجاه هذا الدين، وتستخلص في ثلاث نقط:
1- العلم بالإسلام: أي يعلم الإسلام، وأن الله عز وجل عالم ولا يعبد إلا بعلم، والعلم باب العمل.
2- العمل بالإسلام: أي العمل بما تم العلم به، وقيمة الشخص لا فيما يحمل من معلومات وإنما في مدى مطابقة علمه لعمله. والإسلام الرفيع قول وفعل، إيمان وعمل.
3- العمل للإسلام: حتى لا يكون المسلم سلبيا يحب الخير لنفسه فقط، والمسلم الحق لما ذاق حلاوة هذا الدين لا يصبر حتى ينطلق في وسط الناس ليذيقهم ما هو فيه، لأن المؤمن الحق هو الذي يحب لأخيه ما يحب لنفسه كما جاء في الحديث النبوي الشريف، والله عز وجل يقول: أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها. وهذه الأمور الثلاثة هي التي ربى الله عليها سيد الدعاة والخطباء في سورة أراد سبحانه بهذه الأمة الإسلامية أن تكون دستورا لها في الدعوة تملى على أفرادها في المجامع ليتجدد ولاؤهم لله، ويرددها المؤمن إذا كان وحده منفردا في الصلاة.
فما هي هذه السورة؟ ولماذا هذا الحرص على تكرارها؟ وما هي الأماكن التي تتلى فيها؟
إنها سورة الأعلى، كان يقرأها عليه الصلاة والسلام في الركعة الأولى من كل جمعة في كل أسبوع وفي كل عيد، فإذا اجتمعت الجمعة والعيد في يوم واحد، قرأها يوم العيد ضحى وفي الجمعة زوالا، كما روى الإمام أحمد في المسند والإمام مسلم في صحيحه وأبو داوود والترمذي والنسائي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
كما كان يقرأ سورة الأعلى في كل يوم في الركعة الأولى من الشفع كما روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي بن كعب وعبد الله ابن عباس وعبد الرحمان ابن أبزى وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين.
فلماذا كل هذا الحرص من الرحمة المهداة على قراءة هذه السورة بالضبط في هذه المجامع العامة دون غيرها من السور؟
من الحكم في ذلك أنها تتضمن دستور الدعوة إلى الله عز وجل والذي به تكتمل شخصية المسلم وذلك في قوله تعالى: سنقرئك فلا تنسى والمقصود بهذه الآية العلم بالإسلام، ونيسرك لليسرى والمقصود بها العمل بالإسلام، فذكر إن نفعت الذكرى والمقصود بها العمل للإسلام.
ولنعلم أن شخصية المسلم لا تكتمل بالاقتصار على العلم بالإسلام والعمل به فقط، لأن الشخص يكون بذلك صالحا، والله عز وجل أرادنا أن نكون مصلحين لا صالحين فقط.
بل إن عذابه سبحانه وتعالى المنزل على المخالفين لهديه في الأرض لا يمنعه صلاح الفرد، بل يشمل حتى الصالحين، وإنما يمنعه كونهم مصلحين، قال تعالى في محكم كتابه: وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون فلم يكف لصلاح المجتمع ولأداء الرسالة الاستخلافية أن نكون صالحين، بل إن الحق عز وجل ما جعلنا أفضل وخير الأمم أخرجت للناس إلا بكوننا مصلحين نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر وندعوا إلى الله عز وجل، قال تعالى في سورة آل عمران: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله.
فإذا كانت سورة الأعلى قد حددت لنا مقومات الشخصية الإسلامية السوية التي بها يتحقق العمران الأخوي، وتؤدى الرسالة الاستخلافية في الأرض، ونحافظ على صلاحها، فسورة الجمعة تحدد لنا نوع الخطاب الذي ينبغي أن يوجه للناس لنكون مصلحين حقا. وهذا هو المحور الثاني.
المحور الثاني: نوع الخطاب الذي ينبغي توجيهه للناس
فحينما أفرد القرآن الكريم لخطبة الجمعة وصلاتها سورة خاصة تسمى سورة الجمعة، فقد حدد الله فيها وظيفة خطبة الجمعة حينما قال سبحانه وتعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع فأمرنا عز وجل بالسعي إلى ذكر الله، يعني أن نسعى من أجل أن نتذكر أن الله تعالى هو الحاكم علينا، وعنه نأخذ علمنا، وهو الذي نأخذ عنه أحكامنا، فإذا كان المسلم مطالبا بأن يغتسل جسديا ويتنظف في كل جمعة لحاجة الجسم إلى ذلك، فهو في أمس الحاجة أكثر من الجسم أن يتطهر روحيا.
ويتجلى هذا في استجابته إلى هذا الأمر الإلهي الذي يفيد الوجوب، لأن الأمر إذا أطلق ولم تكن هناك قرينة متصلة أو منفصلة تصرفه عن الوجوب فهو واجب، فاسعوا إلى ذكر الله أي اسعوا من أجل أن تتذكروا هويتكم التي هي أنكم عبيد لله عز وجل تتلقون منه الأوامر. وعلى هذا تكون وظيفة خطبة الجمعة التذكر والتذكير، فيتذكر الخطيب ويذكر الحاضرين بأنهم عباد لله عز وجل آمنوا بالله عن اقتناع منه، وبالتالي عليهم أن يوافقوا في أعمالهم الإيمان الذي زرعوه في قلوبهم.
وباستقرائنا للقرآن الكريم قصد فهم المراد بالذكر الوارد في سورة الجمعة والسعي إليه فإننا نجد أنه جاء بمعنى “العلم” قال تعالى: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون أي فاسألوا أهل العلم. وقال سبحانه: وإنه لذكر لك ولقومك أي علم لك ولقومك.
فواجب الخطيب هو أن يقدم للناس علما. وهو العلم الذي يحتاجونه من أجل أن يخدموا دنياهم وفق ما يرضي ربهم ويصلح آخرتهم. العلم الذي يجعل حياة ومفردات حياة كل مستمع ومستمعة من المسلمين والمسلمات الحاضرين وتصرفاتهم موافقة لشريعة الله عز وجل الذي آمنوا به. شريعة تحكمهم في كل تصرفاتهم وفي كل سلوكهم وفي كل أعمالهم.
إذا فهمنا أن المقصود بالذكر من خلال هذا الاستقراء القرآني هو العلم، فما المقصود بالعلم حقا من خلال القرآن الكريم؟
جاء في سورة الروم النوع الذي يسمى “علما حقا” إذ قال عز وجل: ولكن أكثر الناس لا يعلمون، يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون فالله عز وجل نفى العلم عن أكثر الناس ونسب لهم علما لا يعتبر حقيقة علما نافعا ما دام يقتصر على ظاهر الحياة الدنيا ويغيب جانب الآخرة. لهذا فالعلم الحق الذي يجب أن يتسلح به الخطيب ويذكر به نفسه ويذكر غيره من الحاضرين يوم الجمعة هو العلم الذي يظهر حقيقة الدنيا ويركز على جانب الآخرة.
وبما أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المبين حقا للقرآن الكريم بل هو المترجم له سلوكا وعملا فإننا من خلال خطبه نعرف حقيقة العلم المطلوب. أخرج أبو داود والبيهقي وابن ماجة وابن أبي شيبة عن أم هشام بنت حارثة قالت: (ما أخذت “ق والقرآن المجيد” إلا من فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بها في كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس).
وبناء على هذا الحديث قال صاحب الظلال رحمه الله في تقديمه لسورة ق: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بهذه السورة في العيد والجمعة فيجعلها هي موضوع خطبته ومادتها وفي الجماعات الحافلة”…
هذا هو العلم المنشئ للعمل والذي يسمى حقا علما، بل علما نافعا. يقول الأستاذ عبد السلام ياسين مرشد جماعة العدل والإحسان في كتابه القيم المنهاج النبوي في الخصلة الخامسة: العلم تحت عنوان “العلم النافع” بتصرف-: (ليس العلم النافع ما تكدست فيه النقول وقل الفهم، وانتكست الإرادة. قال مالك بن أنس رحمه الله: “ليس العلم بكثرة الرواية، إنما العلم نور يضعه الله في القلب” – ونركز على كلمة نور لنرجع إليها-، وروى الإمام أحمد عن أبي جحيفة قال: “سألنا عليا رضي الله عنه: هل عندكم (يعني آل البيت) من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء بعد القرآن؟ قال: “والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ! إلا فهم يوتيه الله عز وجل رجلا في القرآن” (الحديث) ونركز في هذا الحديث على كلمة فهم-، ونقول: العلم فهم العقل الخاضع لجلال الله، ونور في قلب من أيده بالإرادة الجهادية). وفي نفس الخصلة الخامسة يقول تحت عنوان (نعوذ بالله من علم لا ينفع): “علم الفقيه منا ينفع إن برز من قلب خاشع، وتمثل وعظا صادقا تتفتح له قلوب المؤمنين، أو تمثل فتوى على بينة، التزم بها هذا أو ذاك ممن يراقب الله من المسلمين ويرجو اليوم الآخر، وإنما ينفع علم الفقيه الأمة يوم يتكامل نظرة شاملة عن الكون وخالقه، والإنسان ومصيره، والتاريخ وسنة الله فيه، والإسلام وحركته في الزمان والمكان، وواقع المسلمين وأسباب تخلفهم، وضرورة تجديد دين الأمة ومنهاجه، والعقبات الخارجية والداخلية، النفسية والاقتصادية والاجتماعية أمام هذا التجديد، والزحف الذي يوصل جند الله إلى الغلبة والنصرة وتنظيم الدولة الإسلامية وتوحيد المسلمين، وتأهيل الأمة لقيادة العالم وحمل الرسالة.
نحتاج لتصور إسلامي لكل هذا. تصور تكون روحه وباعثه ودليله العبودية لله، ويكون مدده ومادته ما يستنبطه العقل المؤمن المتخصص من كتاب الله وسنة رسوله وناموسه في الكون.
علم الحق شرع به نكون مؤمنين حين نحقق مقاصده.
ونواميس الله في الكون قدر على مقتضاه يسوس الله عز وجل مملكته، فبإتقان علوم تلك النواميس نكون قد أعددنا القوة التي أمرنا بإعدادها، فاستحققنا الخلافة في الأرض”.
ولا تناقض بين مضمون سورة ق وهذا الكلام الذي يبصرنا بحقيقة الدنيا ويربطنا بالآخرة. فمضمون سورة ق هو المحفز للنجاح في رسالة الاستخلاف وتحقيق العبودية لله، كل هذا للفوز بما أعده الله للمتقين الذين قال فيهم سبحانه في هذه السورة: لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد. هذا هو العلم الذي يعتبر حقا علما وذكرا، يعرف بحقيقة الدنيا لا بظاهرها، وباستحضار الآخرة وعدم الغفلة عنها.
هنا يعترضنا سؤال نجعله معبرا لمحورنا الأخير: إن ما ذكرته مما سبق لا نجد له أثرا في خطب الجمعة اليوم، إذ يلاحظ تراجع كبير في هذا المجال فما السبب؟
الجواب أنه يجب أن نعرف أن الجمعة ما هي إلا مفردة من مفردات المنظومة العامة، وبالتالي إذا كانت المنظومة العامة للمسلمين متخلفة ومتأخرة، فما يسري على المنظومة العامة يسري على خطبة الجمعة باعتبارها مفردة، بمعنى أننا نتحدث عن تراجع دور الخطبة الذي لا ينفصل عن تراجع التدريس أيضا والتعليم في وطننا العربي والإسلامي، وعن تراجع الثقافة والإعلام، وعن تراجع العبادة في أوساطنا وخصوصا الصلاة… وكل هذا متماسك بعضه ببعض، وأول تراجع وقع في تاريخ العالم الإسلامي كان له الأثر على كل المفردات المرتبطة به مما ذكرناه ومما لم نذكره بما في ذلك تراجع خطبة الجمعة شكلا ومضمونا، كما أخبرنا الحبيب المصطفى فيما رواه الإمام أحمد بسنده الحسن عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: “لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضا الحكم وآخرهن الصلاة”.
من هنا يتبين لنا أنه لا استغراب من تراجع الجمعة لأنها داخل منظومة ما انتقض من الدين الإسلامي، فلا رجوع لمكان الخطبة النبوية الشريفة شكلا ومضمونا إلا بإعادة إبرام ما انتقض من الدين، هكذا يكون البناء على أساس متين.
فقبل انتقاض عرى الدين الإسلامي كان الحكم أداة في يد الدعوة، وبعد الانتقاض وغياب الخلافة الراشدة وإحلال الملك العاض ثم الجبري محلها أصبحت الدعوة أداة في يد الحكام، فكيف لا تتراجع الدعوة عموما والخطبة خصوصا؟ وقد أصبح الخطيب موظفا عند الحاكم بعد أن كان هو سيد المقام لا يعصى له رأي ولا يرد له كلام.
المحور الثالث: ما لاينبغي على الخطيب والداعية إغفاله
وتراجع الدعوة عموما والخطبة خصوصا لم يقتصر على ما ذكر سابقا فقط، بل وصل إلى درجة فصل العلم عن التربية، فلم يبق العلماء هم المربون وإنما اقتصروا على الفتاوى والكلام في المحاضرات والندوات والمواعظ، وتبنت الزوايا مجال التربية، كما تبنتها بعض الحركات الإسلامية في العصر الحالي، وهكذا لم يبق للعالم ولا للداعية ولا للخطيب تأثير فعلي في الناس، ووزن خطير في المجتمع، وإنما بقي مجرد إعجاب قد يخبو وينطفئ تبعا للأحداث، واقتصر الخطيب والداعية على الظهور فوق المنبر أو من وراء الشاشة أو على كراسي المحاضرات بدل أن يتغلغل في وسط الناس ويعيش مآسيهم وأفراحهم ويتتبع خطوات حياتهم ويكون حكما للفصل بين الناس في المنازعات، ويعتبر الناس زرعا لابد أن يراعى بالسعي حتى يشتد عوده كما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم، (فصحبة إنسان في طريقه إلى الهداية تنتشله من وهدة الغفلة لنعم العمل، وغرس الإيمان في القلوب وزراعة الأخلاق الإسلامية في النفوس، ورعاية الغرس حتى يستغلظ، وتعهده حتى يشتد عوده لنعمت الفلاحة. والرفق بالعباد من سوق الغفلة، سوقهم بالحضور وبالكلمة، وبالقدوة وبالمثال، وبالبسمة وبالمجلس، وبالمواساة إلى سوق التجارة مع الله لنعم المكسب، لابد من الصبر مع كل شرائح المجتمع بدءا بهذه الأجيال الشابة من طلبة وتلامذة قصد تحميلهم الأمانة، وبالعمال وعامة المسلمين والمسلمات حتى يتفتحوا للدعوة ويغيروا الوجهة ويستقيم سلوكهم مع الناس باستقامة سيرهم، لأن إصلاح ما أفسدته أجيال الفتنة وتكتل جند الله ليقودوا الأمة إلى رشدها بدل أن يقتصروا على سماع هذا الخطيب أو ذاك الداعية لن تنهض له الأجيال المغربة الذين غشيت عقولهم وأنفسهم ضلة الغواية، فعلى الداعية عموما والخطيب خصوصا أن يصبر مع اعوجاج الضمائر والأخلاق حتى يصحح كل وجهة إلى مولاه، فما أعطف وأنبل وأحب إلى رب العالمين أن تنحني أيها الداعية والخطيب على مهد وليد الدعوة وتغذوه بمحبتك وصحبتك ثم تتابع خطوته وهو يصحو من غفلة طفولة مروءته، ويتقوى من خوفه من غير الله، ويبتهج قلبه باكتشاف حلاوة الإيمان النابعة من ذكر الله، ويستجمع نشاطه لينخرط مع الصادقين في الله، ويتحرر من شح نفسه فيبذل الغالي لنصرة دين الله، ويلتمس عندك وعند أهل الذكر علم ما فرضه الله عليه، ويترزن بتؤدة الصابرين على أمر الله، ويقتصد من وسائل هذه الدنيا فاعلا فيها مؤثرا إيجابيا في كل ميدان خير ما يبلغه قصده في الله، ويجاهد بكل ما أوتي من قوة وحكمة وشجاعة في سبيل الله، فكن محتسبا، لا تنس أن وجهتك في كل ما تعمل من أجل غيرك أيها الداعية إلى الله عائد عليك رضى من الله، لابد من التدرج مع الناس وهم في وسط المؤمنين المنظمين في سلم شعب الإيمان البضع والسبعين لنكون جند الله الذين سيكون النصر حليفهم لا محالة، لأن الله عز وجل قال: وإن جندنا لهم الغالبون، ولكن فاقد الشيء لا يعطيه، فما لم يروض الداعية نفسه والخطيب كذلك على التخلق بشعب الإيمان لا يتأتى لنا أن نربي عليها غيرنا، والتطبيق يسبقه الفهم، ورحم الله من قال:
مواعظ الواعظ لن تقبلا ** حتى يعيها قلبه أولا
يا قوم من أظلم من واعظ ** خالف ما قد قاله في الملا
أظهر في الخلق إحسانه ** وخالف الرحمن لما خلا
وليعلم كل خطيب وداعية أن مجرد الكلام لا يغير واقعا، ولن يغير أخلاق الناس وأحوالهم، لأن الكلام ينسى والرؤية تذكر والممارسة تعلم.
كما أمر الله رسوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه أن يكون شاهدا في قوله تعالى في سورة الأحزاب: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا فالشهادة تعني الحضور المسئول، فلا نصيب للداعية ولا للخطيب من كمال السنة الغراء إن لم يغش كل واحد المجتمع كما غشيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن لم يفرض وجوده ويتغلغل في الأمة بالصبر والمصابرة والحركة النشيطة والإلحاح كما فعل عليه الصلاة والسلام.
الأمة كمٌّ مهمل في تاريخ العالم لأن رجال الدعوة غابوا عن الساحة قرونا طويلة إما في الدروشة أو الزهادة لله أو الحوقلة، وشهادة الدعاة والخطباء ـ الذين يجب أن يكونوا في القائمة الأولى من جند الله ـ يجب أن تعم حتى يتمثلوا حضورا قويا مؤثرا في الواقع المحلي ثم العالمي، قال سيدنا عمر رضي الله عنه لأهل الكوفة: “لا والله لا تكونوا شهداء في الأرض حتى تأخذوهم في الحق …” شهداء في الأرض، قوة سياسية في مراحل الطريق لقيام الدولة الإسلامية ـ واسمي هذه المرحلة قومة، ويسميها غيري ثورة ـ ثم قوة مهيمنة على الدولة في ما حولنا من أنظمة نرى الحزب الحاكم تنبثق عنه الحكومة وهو يوجهها، فماذا يكون مقام الدعوة تحت الدولة الإسلامية؟ أتذوب لتبقى الدولة؟ أم كيف تؤدي واجبها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتوجيه السفينة وهي محتفظة بوحدتها واستقلالها عن الحكومة؟ الحكومة الإسلامية إلهية التشريع، لكنها بشرية التطبيق، وكل حكومة بشرية تتعرض للأخطاء والزيغ فلابد أن تبقى الدعوة مهيمنة ومستقلة لتقوم وتصلح، لابد أن تكون هي الحاضرة الشاهدة، لابد أن تكون للدعوة مجالسها ومؤسساتها ورجالها، إلى جانبها مؤسسات وأجهزة ورجال الحكم.
يجب ألا تغيب الدعوة بقيام الدولة، يجب إعادة الأمور إلى نصابها ليسير الكائن على رجليه لا على رأسه، فقد كانت الدولة نظاما منبثقا عن الدعوة، فلما فسد الحكم أصبحت الدولة هي كل شيء، والدعوة ورجالها تابعا ثانويا لا إرادة له أو لا تكاد، ولا قدرة له على تغيير الواقع.
في الوضع الإسلامي تكون الدعوة هي التي تتخذ القرارات المصيرية والعامة وتكون الحكومة جهاز التنفيذ.
عندما يكون الجسم ضعيف والآلة ضخمة ثقيلة تعود الآلة على صاحبها فتجره إلى مصرعه. ومهمات الدعوة ثقيلة وضخمة أثناء القومة لكنها تزداد ثقلا أثناء بناء الدولة وتسيير شؤون الحكم، فلا تستولي المهمات التنفيذية على الدعوة ـ (كما حدث في الجزائر بعد النجاح في الانتخابات، وكما يحدث لبعض الحركات الإسلامية التي شاركت في الانتخابات) ـ حتى يغيب عنها هدفها الأول. فإن استنفذت مشاكل الحكم طاقات الدعوة وألزمتها أن تقبل الحلول الوسطى فقد تودع منها، هذا ما يجب أن يعلمه الدعاة والخطباء من المحور الثالث، فلا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.