ليس غريبا أن نمر اليوم بشوارعنا وأزقتنا مهما صغرت، لنرى المقاهي وقد كثرت وامتلأت: لقاءات عمل، جلسات للسمر، أو محطات للهرب مما يسميه البعض ضجرا… طلبات تلو طلبات: درس للأولاد، انتبه للرضيع من فضلك حتى أفرغ، ألق نظرة على الطبيخ حتى أرجع.. دوامة لا تنتهي، يعلق الكثير من رواد المقاهي.
فهل لكل هؤلاء فائض في وقتهم؟ هل أدوا رسالتهم اتجاه من هم قائمون عليهم؟ هل أتموا واجباتهم؟ هل…؟
هروب وغروب
خلق الله تعالى الزوجين وجعلهما محتاجان لبعضهما فطرة وغريزة، وذلك لما خصهما به عز وجل من عقل وعاطفة، تزداد مع توالي السنين وتكاثر الأعباء، فيصبح حضور الزوج ووجوده بجانب زوجته في التربية وتدبير أمور المعاش اليومي أكثر إلحاحا، لأن المسؤولية جسيمة لا تقدر الزوجة بأية حال أن تتحملها بمفردها ولا الزوج يستطيع أن يتحملها لوحده.
قد يرى البعض أن الزوج مسئول عن توفير لقمة العيش من مأكل وملبس ومسكن… لكن هذا لا يعفيه في الأصل من مسؤوليته داخل البيت، فإذا كان غياب الرجل بسبب الكدح على العيال أو غيرها من الانشغالات غيابا مبررا، فهناك غيابات غير مبررة ولا مقبولة، بل لا تعدو أن تكون ذريعة للهروب من المسؤولية أو ضجيج الأطفال أو متطلبات المنزل وإن كانت بسيطة كتغيير قارورة غاز مثلا. كما أنه في كثير من الأحيان يكون الزوج موجودا لكنه غائب غير فاعل ولا متفاعل؛ فهو إما في غرفته مختليا بنفسه أو خالدا للراحة أو أمام حاسوبه أو تلفازه أو هاتفه أو مجالسا لأصدقائه، في عالم نسجه لنفسه بعيدا عن زوجة كادة كادحة شاركته السعي للمعاش، ولم يشاركها الحضور الداعم المسئول داخل البيت، مما يجعل هذا الأخير مختل التوازن وإن جاهدت الزوجة واجتهدت من أجل اعتداله.
ومع يأس الزوجة من مشاركة زوجها لها، تتحول حاجتها لحضوره ورغبتها في وجوده – يشد أزرها ويقوي ضعفها – تمنيا لغيابه؛ فلكونه أنانيا ومتطلبا ومتأففا… أصبح بصفاته هاته عبئا إضافيا بالنسبة إليها، عوض أن يكون مساندا مساعدا. وهذا يؤثر بالضرورة على أخص خصوصيات العلاقة بينهما، لأن الميثاق الذي عقد شراكة حياتهما أوجب اشتراكا في كل شيء وليس في سرير النوم فقط… فبأي عقل وأي قلب يطلب من زوجة ظلت حمالا وطباخا ومدرسا داخل البيت ـ وقد يزيد عملها خارج البيت كدا وتعبا ـ أن تبيت جسدا غير متعب ونفسية غير مكتئبة وقلبا محبا ودودا رحيما، يشع دفئا وحنانا واحتضانا؟! ضاع السكون والسكن، تمزق نسيج اللباس، وغربت شمس البيت ضحى على أوتار الأنانية والهروب من المسؤولية.
دعاء نظير تربية
إن حضور الزوج المستمر في بيته حضورا بناء داعما أمر مهم للزوجة في علاقتها بأبنائها، وجود مسئول له هيبته في بيته، يشعر الأبناء من خلاله أن في بيتهم أبا يعطف عليهم ويحرص على متابعتهم والسؤال عن أحوالهم وتفقدهم بالتأديب والتربية. فالأبناء غالبا ما يستغلون غياب الأب وفيض عاطفة الأم وحنوها وهي المفطورة على ذلك لفعل ما يريدون، خصوصا في فترات عمرية تتطلب تعاملا خاصا حاسما، أو اتخاذ قرارات مصيرية مهمة كالسفر للدراسة مثلا أو تركها نهائيا أو ما شابه… ولنـتأمل قوله تعالى:وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا [سورة الإسراء، الآية: 24]، الوالدان أبا وأما استحقا الدعاء نظير التربية لا نظير التغذية، والزوجة تحتاج زوجا يدفع بفلذات كبدهما إلى كل عظيم، فهم ثمرة كفاحهما معا، ونتيجة حسنة لعطائهما وتفانيهما، ومن لم يحسن القيام بواجبه ولم يحاول حتى توجيه سفينته لم يصل بها قطعا إلى بر الأمان.
نظرة بعبرة
لقد كان – وسيكون لنا دائما وأبدا – في رسول الله الأسوة الحسنة، كان صلى الله عليه وسلم يحفظ ود أهله، وكان عليه أزكى الصلوات في مهنتهن، فهل هناك من له مسؤولية دعوية أو مهنية أعظم من تلك التي كانت لرسول صلى الله عليه وسلم؛ فيجد الوقت لسباق أمنا عائشة وللسمر مع أزواجه والطواف عليهن؟! فلنا العبر ولمن زعم غير ذلك أن ينظر ويتدبر لماذا جعل صلى الله عليه وسلم الخيرية بين الناس مرتبطة بأهل البيت، قال صلى الله عليه وسلم: “خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي” (رواه الترمذي)، لم يقرنها بعلم أو عمل أو مال أو جهاد، بل قرنت بحسن معاشرة أهل البيت، ومن ذلك القيام بالواجب اتجاههم وخدمتهم لما لذلك من آثار جليلة على الأهل وعلى الأمة، واستحق عليه الصلاة والسلام بهذا أيضا خيرته على العالمين. وفق الله خلقه إلى حسن الاتباع والاقتداء وتحري أبواب الخيرات. آمين.