لقد كانت النساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفرن استجابة لداعي الخير، ويستنفرن لذلك الصبيان والأبكار، حتى يعمهم الخير أجمعين. ولم يكن رضي الله عنهن يتركن فرصة لنيل الأجر، أو التقرب من الله عز وجل، إلا كن أشد حرصا عليها. ومن أعظم هذه الفرص حضورهن صلاة العيد مع جماعة المسلمين، أوان يكافئ الله عز وجل فيه المؤمنين على صيامهم وقيامهم إيمانا واحتسابا. أو لم يقل سبحانه في الحديث القدسي: “كل عمل بن آدم له، إلا الصوم فهو لي وأنا أجزي به”. روى البخاري ومسلم عن أم عطية رضي الله عنها قالت: “كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد، حتى نخرج البكر من خذرها، حتى نخرج الحيض فيكن من خلف الناس فيكبرن بتكبيرهم ويدعون بدعائهم، يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته”. ولعلنا نتساءل عن سر هذا الحرص من رسول الله صلى الله عليه وسلم على حضور الصحابيات جنبا إلى جنب مع الصحابة الكرام في مثل هذه المناسبة؟ وما الدافع لحضور من يمنعها العذر من أداء الصلاة ودخول المصلى؟
مناسبة لاستشعار الانتماء الفعلي لخير أمة أخرجت للناس
إن للناس في كل زمان مواسم وأفراحا يدخلون بها المسرة على أنفسهم، ويجددون الصلة، وينسون فيها آلام الحياة. وتكتمل فرحة المسلمين في يوم العيد الأغر الذي توزع فيه المنح والجوائز الإلهية، حين يتجلى لهم وافر عطاء الله تبارك وتعالى، وحين يدركون عمق الرابطة وعظمة الانتماء لأمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. فالله أكبر والحمد لله على ما هدانا.
وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (البقرة، 185). ما أعظم ما كان يسعد المؤمنون ومعهم المؤمنات على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يكثرون من التكبير، بعد أن يسر الله لهم إحياء ليلة العيد بالذكر والدعاء والقيام. قلوبهم تهفو إلى ما عند الله. وتعظم فرحتهم وتتضاعف في حضرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فتترجم الفرحة القلبية تكبيرا وتهليلا وحمدا وتمجيدا، وكأن عيدهم عيدان، ولسان حالهم يقول: أنت لنا يا محمد برغم العيد عيد. ألم يقل الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: “للصائم فرحتان”؟ كيف لا تحضر المؤمنة مناسبة كهذه تتآلف فيها القلوب وتنجمع الأمة على الله، وتجتمع على الخير، رجالا ونساء، بالمواساة والتعاون على البر والتقوى. فقد كانت تجمعات المسلمين على عهد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فضلا عن كونها فرصا لغنم الفضل الكبير والبركة، وخير الدنيا والآخرة، مناسبة للمشاركة في الشأن العام للأمة، وتتبع أخبار الجهاد والدعوة؛ فعن أبي سعد الخدري “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج يوم الأضحى ويوم العيد فيبدأ بالصلاة، فإذا صلى صلاته وسلم، قام فأقبل على الناس وهم جلوس في مصلاهم، فإن كان له حاجة يبعث ذكره للناس، أو كانت له حاجة بغير ذلك أمرهم بها، وكان يقول: تصدقوا تصدقوا تصدقوا، وكان أكثر من يتصدق النساء” (رواه مسلم).
مناسبة للإنفاق في سبيل الله
لا تكون المؤمنة من الأنانية بحيث تستأثر بالفرح في هذا اليوم العظيم، دون أن تستشعر انتماءها لأمة فيها الفقير وذو الحاجة المعوز. مثال تضربه لنا أم عطية، راوية الحديث الأول في خروج النساء لصلاة العيد، حين حملت هم من ليس لها جلباب تستطيع به حضور هذا الاحتفال النوراني الملائكي، فقالت: “يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب (فلا تستطيع الخروج) فقال صلى الله عليه وسلم: “لتلبسها أختها من جلبابها”. إنها التربية الرفيقة على الإيثار والتضامن ابتغاء رضى الله عز وجل، القائل سبحانه: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم (آل عمران، 92). وعن ابن عباس قال: “شهدت الفطر مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال فنزل نبي الله صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إليه حين يجلس الرجال بين يديه. ثم أقبل يشقهم (أي الرجال) حتى أتى النساء معه بلال فقال: تصدقن، فبسط بلال ثوبه ثم قال: هلم لكن فداء فدا أبي وأمي، فيلقين الفتخ والخواتيم في ثوب بلال”. قال الحافظ بن حجر: وفي مبادرة تلك النسوة إلى الصدقة بما يعز عليهن من حليهن، مع ضيق الحال في ذلك الوقت، دلالة على رفيع مقامهن في الدين، وحرصهن على امتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهن.
مناسبة للتوسعة والترويح وإظهار الفرح والزينة
شرع نبي الرحمة لأمته الاحتفال بعيد الفطر، وإظهار الفرحة والسرور والتوسعة على الأهل. وإذا كان يحلو للبعض جهلا بالدين تارة، وجرأة عليه أخرى، أن يحرم على الناس ما أحل الله لهم، وأن ينكر عليهم ما أقره رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإن من صميم هديه أن تيسر للناس أسباب الفرحة رجالا ونساء وأطفالا، فلا تضيق على مشاعرهم، ولا تكبت الفرحة في صدورهم ما دامت لا تتصادم مع الآداب العامة وما هو مسموح به شرعا. ومن مشاهد هذا السرور والاستبشار بيوم العيد على عهد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ما رواه البخاري عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش وحول وجهه ودخل أبو بكر فانتهرني وقال: مزمارا شيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبل عليه رسول الله عليه السلام فقال: “دعهما فإنه يوم عيد”. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: “… وكان يوم عيد يلعب فيه السودان بالدرق (ج. درقة، ترس مصنوع من الجلد) والحراب، فإما سألت النبي صلى الله عليه وسلم وإما قال لي تشتهين تنظرين؟ قلت: نعم. فأقامني وراءه، خدي على خده وهو يقول: “دونكم يا بني أرفدة” حتى إذا مللت قال: حسبك؟ قلت: نعم. قال فاذهبي” رواه البخاري ومسلم، وفي رواية “دونكم يا بني أرفدة، لتعلم يهود أن في ديننا فسحة، وأني بعثت بالحنيفية السمحة”. مثال عظيم للرحمة والتيسير.
يورد الإمام ابن قيم الجوزية في زاد المعاد: باب هديه في العيدين “وكان يلبس للخروج إليهما أجمل ثيابه، فكان له حلة يلبسها للعيدين والجمعة، ومرة كان يلبس بردين أخضرين”، روى ابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم الجمعة، فرأى عليهم ثياب النمار فقال: “ما على أحدكم إن وجد سعة أن يتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته”.
إن دور المؤمنة في إظهار مظاهر الفرح على أسرتها كبير ولا يقوم له غيرها، فلا تعدن أختي الاستعداد المادي للفرحة في هذا اليوم العظيم، تهييئا للبيت والثوب والطعام المميز، غفلة أو مضيعة للوقت، بل جددي النية وعظميها واستحضري قول الله عز وجلومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب، وما جعل الله عز وجل سنة الاغتسال ولبس أحسن الثياب والتطيب إلا لتعظيم هذه المناسبات في قلوب المسلمين.
وأنت بدورك ترسخين هذا التعظيم في قلوب أبنائك حفظا لما حفظه الله عز وجل من فطرة سليمة ترسخت في الأمة عبر الأجيال. وبهذا يثني الله عز وجل على المؤمنات الصالحات: فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ (النساء، 34).
يكون فعلك ذلك سنة ما اجتنبت التكلف، فقد كان سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أكثر الناس لحما في بيته طيلة السنة، إلا أنه رضي الله عنه لما رأى الناس يتنافسون في الأضاحي، ترك الذبح يوم الأضحى حتى لا يزداد التنافس، ولا يتكلف الفقير أو يظنها فريضة. ولا تنسي أن من أهداف الاحتفال الجماعي في العيدين استشعار هموم الأمة، والإقبال على الله طلبا للآخرة بالإنفاق في سبيل الله، وإدخال الفرحة على الفقراء والمعوزين.
واجبنا في غد الإسلام
إذا كان حال الأمة اليوم أبعد ما يكون عن مقومات الخيرية التي أثنى الله عز وجل عليها بها: مشتتة الأشلاء، ممزقة الكيان، مستباحة الحرمات، فلنجعل من أعيادنا مناسبة للدعاء والوقوف بين يدي الكريم المنان، أن يمن على أمة حبيبه المصطفى بصبح يجلو فيه غسق الظلم الواقع عليها.
واجبنا أن نستنهض الهمم لبذل النفس والنفيس في سبيل الله وإعلاء كلمته والتعرض لنصره. يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: “تجمعاتنا – لاسيما في الجمعة والعيدين – ينبغي أن يظهر فيها اعتزازنا بإسلامنا، وسمته، وزينته، وكثرته، وقوته، وهيبته.. نساؤنا وأبناؤنا وبناتنا يخرجون معنا لنحتفل بمواسم الخير في المصليات، نعظم ونفخم، ونفرح ونظهر زينتنا. وكما يحشد حكام الجبر أجهزتهم لتنظيم مواسم البدعة والشيطان، نجند نحن إن شاء الله كل قوى ووسائل الدعوة والدولة لنعرض على بعضنا وحدتنا وتعلقنا بالله عز وجل وحرمه، ونعرض عليه سبحانه أننا امثثلنا لأمره ما استطعنا، نسأله بذلك أن يدفع عنا، ويرحم حوبتنا، ويرفع عزنا. ثم نخرج للجهاد، كلنا عزم وقوة” (كتاب المنهاج النبوي، ص 283).