الحمد لله الذي منّ علينا ومدّ في أعمارنا أن بلغنا رمضان. تصرمت العشر الأولى، ثم الثانية، وها نحن في العشر الأواخر منه، فنسأله سبحانه أن نصل بها منازل أصفيائه المقربين. فبادر أخي إن أبطأ بك العمل، وفاتك الركب، وخانتك نفسك، فضيعت أوقاتك في اللهو واللعب، والنوم والكسل، أن تلحق بالصادقين المخلصين، الذين ليس لهم دون رضى الله مطلب، وغايتهم أن يبلغوا القصد، وقصدهم هو الله. إنهم المحسنون الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع، رهبان بالليل وفرسان بالنهار قال تعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ. كَانُوا قَلِيلا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ. وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ 1.
ها هي فرصتك أخي بين يديك، إنها عشر العتق من النار، عشر علمنا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا وحالا أنها ليست كسائر الأيام والليالي، حيث كان يجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها، وذلك دلالة على عظمها وفضلها. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره” 2 فكان صلى الله عليه وسلم يحيي الليل بكل أنواع العبادة من صلاة وذكر وقرآن، ويوقظ أهله وكل من يطيق القيام، قال ابن رجب: (ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحداً من أهله يطيق القيام إلا أقامه). وعن أمنا عائشة رضي الله عنها: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجَدَّ وشدَّ المئزر” 3.
فكان يعتكف في المسجد ليتوجه بكليته لمولاه، في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: “أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده”. كيف لا يفعل صلى الله عليه وسلم وقد أكرم الله عز وجل أمته في هذه الليالي بهدية لم تعط لرسول ولا نبي قبله؟ إنها ليلة مباركة، أنزل فيها القرآن، ذات قدر وشرف وفضل، إنها خير من ألف شهر، قال تعالى: إنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ 4.
ليلة تضيق فيها الأرض بكثرة نزول الملائكة، هي منحة من الله نبلغ بها رغم قصر أعمارنا أعمال المعمرين من الأمم السابقة، جاء في المرسل عن مجاهد رحمه الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فعجب المسلمون من ذلك، فأنزل الله عز وجل: إنا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر* ليلة القدر خير من ألف شهر. ليلة هي بشرى للمذنبين، وكل بني آدم خطاء، يغفر الله لمن قامها إيمانا واحتسابا ما تقدم من ذنبه. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدَّم من ذنبه” 5.
وختاما أيها المسلم، شد مئزرك، وجد واجتهد في العبادة تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن أردت أن تغنم هذه الأيام، فعليك بصحبة الصالحين المصلحين، مريدي وجه الله وملازمتهم، صبرا لنفسك معهم، تجالسا وتناصحا وذكرا لله وتضرعا إلى المولى عز وجل أن يقيمك بين يديه في هذه الأيام المباركة ويجعلك مقبولا عنده ويمن عليك برضاه فهو سميع مجيب.