أدب الزيارة من الآداب الشرعية التي أمر بها الإسلام ودعا إليها إبقاء على الألفة وإقامة للعشرة والمودة وحفاظا على صفاء القلوب. وقد وعد الله عز وجل بالثواب العظيم لمن يحافظ على هذا الأدب ويخلصه من شوائب متاع الدنيا الزائل، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يرويه عن ربه عز وجل: “حقت محبتي للمتحابين في، وحقت محبتي للمتزاورين في، وحقت محبتي للمتبادلين في…” [رواه الإمام أحمد والطبراني والحاكم وهو حديث صحيح عن عبادة بن الصامت]. فالمؤمن لا غنى له عن زيارة أخيه المؤمن، بل إنها تبلغه الدرجات العليا عند الله عز وجل ما دامت خالصة لوجهه، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: “أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى، فأرصد الله تعالى على مدرجته ملكا، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة ترد بها عليه؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله تعالى، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته” [رواه مسلم].
وعنه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من عاد مريضا أو زار أخا له في الله ناداه مناد بأن طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلا” [رواه الترمذي وقال حديث حسن].
أسباب تندب لها الزيارة
1. عيادة المريض
تعتبر عيادة المريض من آكد حقوق المسلم على أخيه المسلم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس” [حديث متفق عليه].
وعنه رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟” [رواه الإمام مسلم]. أرأيت أختي كيف ضرب الله عز وجل لنا مثل عبده بنفسه “مرضت فلم تعدني” تعظيما لخلقه لنتأسى ونعلم أن حرمة المؤمن أعظم عند الله عز وجل من حرمة الكعبة.
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى: “أنانية وشح أنت أم عين تفيض برا؟ ما قدرك عند مولاك؟ انظري ما قدر مريض عندك عدته في الله، واشتريت علب الدواء بعد أن أحضرت الطبيب.. وراقبي نفسك ليكون كل ذلك في الله ولله، لا يدخل نفسك رياء فيبطل عملك” [كتاب تنوير المؤمنات، ص 60، من ج 2 (الإحسان إلى الخلق].
2. إجابة الدعوة
هي من الحقوق الواجبة في حق أي مسلم، وقد تقدم دليل ذلك في حديث الحقوق الخمس. وقد شرع الله عز وجل لها آدابا أهمها عدم تحقير شيء مما ندعى له، وعدم الاستئناس للحديث بعدها. وعلى هذا يدل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لو دعيت على نزاع لأجبت، ولو أُهدي إلي كُرَاعٌ لقبلت، فإذا فرغتم من الذي دعيتم له فَخَفّفوا على أهل المنزل وانتشروا في الأرض”.
لكن بمقدار ما أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضرورة إجابة الدعوة، حذر من التطفل على ولائم الناس بغير دعوة فقال: “من دعي فلم يجب فقد عصى الله تعالى ورسوله، ومن دخل على غير دعوة فقد دخل سارقا وخرج معيرا”.
يعلق سيدي عبد القادر الجيلاني على هذا الحديث: “ويحرم التطفل على طعام الناس، وهو دخوله مع المدعو من غير أن يدعى، وهو ضرب من الوقاحة والغضب، ففيه إثمان: أحدهما الأكل لما لم يدع إليه، والثاني دخوله إلى منزل الغير بغير إذنه، والنظر إلى أسراره والتضييق على من حضره” [كتاب (الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل)].
3. إصلاح ذات البين والسعي في حاجة المسلمين
يقول الله عز وجل:لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس [سورة النساء، آية 114]، وقوله عز وجل أيضا:إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون [سورة الحجرات، آية 10].
عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن أخيه كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة يوم القيامة “ [متفق عليه].
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى يصف المؤمنة: “تشكر ربها على نعمه أن هداها للإيمان فتتفجر ينابيع الخير في قلبها، تترجم الشكر والعطاء من مالها وحنانها ووقتها واهتمامها ووقوفها بجانب اليتيم والمسكين والمقهور، والأسرة المكسرة أو المهددة بالكسر، تصلح ذات البين، وتأسو الجراح وتحتضن النوائب، وتجمع مع أخواتها العون المادي والعاطفي لرأب الصدع في البيوت، والتخفيف مما في البيوت من مآس وما في الشوارع من حطام بشري. أمومة حانية لمن جفتهن الأمهات، صدور محبة لمن يستغثن، ذمة موثوقة لمن لدغتهن أفاعي مجتمع الظلم والكراهية) [كتاب تنوير المؤمنات، ص 60، ج 2 (الإحسان إلى الخلق)].
وضرب الله عز وجل لنا مثلا حسيا ليعلمنا أن المحبة في الله لا تقف عند السلام، بل هي مؤاخاة وتآزر وتكافل، فقال في ما رواه الشيخان عن النعمان بن بشير رضي الله عنه: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”.
4. زيارة أهل الخير والتماس صحبتهم
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل”. وقد روي لنا من أخبار التابعين أنهم كانوا يشدون الرحال التماسا لصحبة ومجالسة أهل العلم والإيمان من كبار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما روي عن عمر رضي الله عنه، عن أسير بن عمرو قال: “كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس رضي الله عنه فقال له: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مراد ثم من قرن؟ قال: نعم، قال: فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم، قال: سمعت رسول الله عليه وسلم يقول : “يأتي إليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل، فاستغفر لي فاستغفر له…” [رواه مسلم].
وروى الإمام مالك في الموطأ والحاكم وابن عبد البر بسند صحيح عن أبي إدريس الخولاني وهو من كبار التابعين قال: دخلت مسجد دمشق، فإذا فتى براق الثنايا والناس حوله، فإذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه وصدروا عن رأيه. فسألت عنه فقالوا: هذا معاذ بن جبل، فلما كان الغد هجرت إليه فوجدته قد سبقني بالتهجير ووجدته يصلي، فانتظرته حتى قضى صلاته، ثم جئته من قبل وجهه فسلمت عليه ثم قلت: والله إني لأحبك في الله فقال: آالله! فقلت: آالله! فقال : آالله! فقلت: آالله! فأخذ بحبوة ردائي إليه وقال: أبشر! فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “وجبت محبتي للمتحابين في، والمتجالسين في، والمتزاورين في، والمتبادلين في…”.
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى تعليقا على هذا الحديث: “أسمي هذا الحديث دستور الصحبة، لا غنى للمؤمنات عن التحاب بينهن في الله، وعن التجالس والتزاور والتبادل في الله. قد يكون التحاب فاتر فيسخنه التجالس، ويمشي عراه التزاور، ويقوي أواصره التبادل” [كتاب تنوير المؤمنات، ص 23، ج 2 (صحبة من صحب ومحبة من أحب)].
ويقول في نفس الكتاب: “نقلت إلينا مجالس التابعين إلى معاذ وأبي الدرداء وأمثالهم من علماء الصحابة يأخذون العلم والإيمان حيث مكانهما في عقول الرجال وقلوبهم، لم ينقل جلوس المؤمنات إلى فاطمة وعائشة وفضليات الصحابة مثلما نقلت المجالس في المساجد. والعلم والإيمان مكانهما في عقول المؤمنات وقلوبهن مثلما هما في عقول المؤمنين وقلوبهم… هل قرأن سورة العصر في آخر كل لقاء ليضربن موعدا بعد موعد تصديقا لما في سورة العصر من الحث على التواصي بالحق والصبر؟ هل يقرأنها كما يقرأها الصحابة في آخر كل جلسة؟ أم تراهن يجلسن للقيل والقال وشقشقة اللسان؟ -انتهى- وقلت: حاشاهن وهن من تتلمذ كبار الصحابة على أيديهن حتى شهدوا أنه ما أشكل عليهن أمر وسألن عنه أمهن وأمنا عائشة إلا وجدن عندها منه خبرا، رضي الله عنها وعنهن أجمعين” [تنوير المومنات، ص 25، ج 2 (مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم)].
آداب الزيارة
الزيارة سمة من سمات المجتمع العربي والإسلامي وخاصية من خصائصه الفريدة، وهي تنضبط بضوابط أخلاقية وشرعية على مستوى الفرد والجماعة، كلما توافقت معها قويت العلاقات وتوثقت الروابط. وينبغي تخفيفها وعدم الاستئناس فيها للحديث والاسترسال فيه، فقد يضيق أصحاب البيت بذلك ويشق عليهم إظهاره للضيوف، وفي نفسهم ما فيها من الحرج. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “زر غبا تزدد حبا” [رواه البزار وغيره]. (غبا: غب، يغب، غبا، أي زر حينا بعد حين).
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: “يطبق جند الله آداب الاستئذان، والسلام والمصافحة، والمعانقة والمباششة، وآداب المجلس والمشورة، ويتعلمون كيف يحترمون من أمامهم، وكيف يعطونه حقه من وقتهم وأذنهم. ويتعلمون بمزج الأدب مع الناس بالأدب والحضور مع الله سبحانه، أن لا تجذبهم سطوح العلاقات البشرية إلى المجاملات والنفاق، فيذكرون الله في كل مجلس، لكي لا يكون عليهم ترة (أي نقمة) يوم القيامة، ويختمونه بكفارة المجلس ويلتزمون الوقار، واحترام المواعد. دون تنطع ولا عبوس، ولا انقباض ولا تكلف ولا تزمت. برأنا الله منها، ففي ديننا فسحة، والملاطفة والمداعبة البريئة، من سنة نبينا) [كتاب المنهاج النبوي، ص 277 (شعبة آداب المعاشرة – خصلة السمت الحسن)].
ونختم بما قاله الإمام عبد السلام ياسين، ص 279 من الفقرة أعلاه من المنهاج النبوي: “ما دام جند الله في مراحل الدعوة، فهم نسمة لطيفة تدخل على جو الكراهية، تنعش ما استطاعت من آمال وتهذب ما استطاعت من أخلاق وعلاقات. وحين يؤول إليهم الأمر – ولا نشك لحظة في موعود الله ورسوله – يفرضون بسلطان الدولة العدل والبذل الأخوي. وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ماضية” [ص 279 كتاب المنهاج النبوي (شعبة آداب المعاشرة – خصلة السمت الحسن)].
يؤكد رحمه الله خيرا على أهمية المحبة بين جند الله لكنه يحذر في موقع آخر في كتابه تنوير المؤمنات فيقول: “من علامات تربية الأطفال والبالغين تربية حسنة احترامهم لوقت الناس، وحياة الناس الخاصة. ويثقل بعضهم ويتطفل ويدخل الفوضى والتنغيص في أوقات الناس وبرامجهم، فيؤذي ويقذي).
فإذا كان البيت بيت دعوة وكان الوافدون عليه أرسالا تعذر على أهل البيت أن يتساكنوا المساكنة الطيبة، نعم بيت المؤمنة ينبغي أن يتسع، ويتسع خاطرها للواردين على الدعوة، لكن في حدود ينبغي أن تعرف.