لعل أول ما يثير انتباه القارئ في هذا المقال هو العنوان، بوصفه تصنيفا للأدب في خانة محددة، وهو الذي لا يخضع للقيود والتصنيفات والتحديد في عرق أو جنس أو دين …بل هو مجموع الانفعالات البشرية الكامنة في دواخل الإنسان ومكنوناته، والمبثوثة في أعمال خالدة كالشعر والرواية أو القصة… إلخ.
لذا؛ هل يمكن تصنيف أدب المرأة المسلمة عن غيرها من غير المسلمات؟
وهل كون المرأة مسلمة، يجعلها تدور في خانة محددة دون أخرى؟
وهل لأدب المرأة المسلمة دور في نشر الدعوة والذود عنها، وإعطاء نموذج وإسهام أدبي يرقى إلى الإنسانية الكاملة التي يطمح إليها البشر؟
في هذا المقال، ونحن نعيش شهر المرأة، كان لزاما علينا تناول سيرة أديبة مسلمة تميزت بكتابتها المنافحة عن المرأة وعن الإسلام أيضا، وهي التي عاشت في عصر قلّ فيه الاهتمام بتعليم المرأة والحرص على معرفتها.
ولدت عائشة عبد الرحمن سنة 1913 بمحافظة مصرية ريفية، وبالضبط بدمياط. وهي سليلة علماء الأزهر المحافظين، الذين أبوا أن يتأثر أبناؤهم وبناتهم بتوجهات الفكر والثقافة الغربية …
تلقت عائشة عبد الرحمن العلوم الشرعية داخل أسرتها، إلا أنها أرادت أن تتعرف على ثقافة العصر الحديث. وبالرغم من رفض أسرتها، إلا أنها استطاعت بفضل جدها ثم أمها أن تكمل دراستها حتى التعليم الجامعي، متحدية العوائق والصعاب، لتجمع بين دراستها الدينية والدراسة الحديثة.
كما دخلت عالم الصحافة باكرا، باسم مستعار، نظرا لأسرتها وبيئتها المحافظة التي كانت تَحُدُّ من إمكاناتها الإبداعية، ونظرا للموروث الثقافي السائد آنذاك، والمُكَبَّل بسلاسل التقاليد والعادات.
وكانت من أبرز الأديبات العربيات اللواتي كان لهن حضور إعلامي متميز في عالم النشر والصحافة.
“بنت الشاطئ”، هو الاسم الذي اختارته “عائشة عبد الرحمن”، لتوقع به كتاباتها في المجلات والجرائد، وهو اسم له ارتباط وثيق ببيئتها، وبالضبط ضفاف النيل بمحافظة دمياط، حيث مهد الطفولة والذكريات الجميلة، وهو اسم له دلالة القرب من واقعها الاجتماعي والثقافي أيضا.
ومن مجلة “النهضة الإسلامية” إلى مجلة “الأهرام”، تابعت طريقها، إلى أن التقت وهي طالبة بكلية الآداب قسم اللغة العربية أستاذها وأحد أعلام الفكر والثقافة يومئذ “الأستاذ أمين الخولي”، والذي قدم لها نصيحة ثمينة تتمثل في وجوب انكبابها على فهم وهضم الأدب واللغة التي أنزل بها القرآن الكريم، فذاك هو المفتاح لتحصيل الدراسات الإسلامية.
وهذا الأمر لم يكن صعبا عليها، وهي التي تربت في بيت علم وفضل، نهلت منه العلوم والدراسات الأدبية والإسلامية.
ثم كان الزواج بأستاذها الشيخ “أمين الخولي” الذي أنجبت منه ثلاثة أبناء.
وبالرغم من اهتمامها الدائم بالعلم والفكر والثقافة، إلا أنها كانت قادرة أن تكون مثالا للزوجة الصالحة الواعية، والأم الفاضلة.
كما اعتبرت لقاءها بزوجها قدرا غير مجرى حياتها، حيث قالت: “قطعت العمر كله أبحث عنه في متاهة الدنيا وخضم المجهول… ثم بمجرد أن لقيته لم أشغل بالي بظروف وعوائق قد تحول دون قربي منه، فما يعنيني سوى أني لقيته، وما عدا ذلك ليس بذي بال”.
وقالت أيضا في سيرتها الذاتية “على الجسر” أن طوال رحلتها حتى آخر العمر لم يتخل عنها إيمانها بأنها ما سارت على الدرب خطوة إلا لكي تلقاه.
حتى أنها كتبت “على الجسر” لتوثق قصة حياتها وتربط وجودها بوجوده، فلم تشغلها شهرة ولا علم غزير عن إخلاصها وحبها له، والإشادة بفضله عليها.
كما واصلت دراستها حتى نالت الماجستير ثم الدكتوراه، والتي كان موضوعها تحقيق ودراسة “رسالة الغفران لأبي العلاء المعري”، والذي ناقشها هو عميد الأدب العربي الدكتور “طه حسين”.
لقد سجلت “عائشة عبد الرحمن”، مواقف تاريخية خالدة، تتمثل في الدفاع عن قضايا الإسلام والأمة، كما أن دعوتها لتعليم المرأة كانت وفقا لطبيعتها وفطرتها، دون خلل بوظيفتها، ومكانتها، كانت دعوتها بعيدة كل البعد عن التشدق بتحرير المرأة، ونزعها من أنوثتها التي فطرها الله عليها.
لقد عملت بنت الشاطئ أستاذة بقسم اللغة العربية بكلية الآداب – جامعة عين شمس من سنة 1962، وأستاذة التفسير والدراسات العليا بكلية الشريعة جامعة القرويين بالمغرب عام 1970 …
ولم يكن حضورها في مصر فقط، بل في العالم العربي، حيث كانت أستاذة زائرة لكثير من الجامعات العربية مثل جامعة أم درمان الإسلامية، وجامعة الخرطوم، وجامعة القاهرة، وجامعة الجزائر، وجامعة بيروت العربية، وجامعة الإمارات العربية، وكلية التربية للبنات بالرياض.
بذلت الدكتورة “عائشة عبد الرحمن” جهودا كثيرة للتعبير عما آمنت به، فكانت مثالا لعطاء المرأة المسلمة في ميادين الأدب والثقافة والفكر، بعد أن كانت مقتصرة على الرجل، بل خاضت معارك فيما يتعلق بقضايا المرأة والمتمثلة أساسا في السفور والحجاب، والتعليم والعمل، فعبرت عن رأيها بوضوح وعقيدة راسخة.
ولعل أهم ما بينت به الدور العظيم لسيدات بيت النبوة، هو موسوعتها التي ألفتها في خمسة كتب، موضحة دور المرأة في بيت النبوة، وكيف صنعن التاريخ، وأثرن في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكيف كانت مكانتهن عنده.
وترجمت هذه الكتب الخمسة إلى لغات عديدة كالفارسية والأردية والأندونيسية واليابانية، وكانت سببا في دخول نساء غير مسلمات إلى الإسلام، لما قدمت من أنموذج رائع لصورة المرأة من الناحية الحضارية والإنسانية، وصححت للغرب نظرته عن المرأة العربية المهضومة الحقوق، حبيسة البيت بدون تعليم ولا عمل.
فكان الكتاب الأول “أم النبي” صلى الله عليه وسلم، والكتاب الثاني عن “نساء النبي”، والثالث “بنات النبي”، والرابع “السيدة زينب”، حفيدة الرسول صلى الله عليه وسلم وبنت الإمام علي رضي الله عنه، والسيدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله عليه الصلاة والسلام. والكتاب الخامس عن “السيدة سكينة”، بنت الإمام الحسين رضي الله عنه.
كما تناولت بنت الشاطئ قضايا المرأة المعاصرة، فألفت “المرأة المسلمة أمس واليوم”، و”مدخل إلى قضايا المرأة المسلمة في المجتمعات الإسلامية”.
ودعت إلى ارتداء الحجاب، دون أن يمنع ذلك من مشاركة المرأة في الحياة العامة، ونادت بضرورة تعليم المرأة.
بالإضافة إلى كل هذا، فبنت الشاطئ ارتبطت بقضايا الريف والفلاح المصري، مشيرة إلى ما يقع عليه من ظلم، ومشاكل اجتماعية وصحية وفكرية. وهو وفاء دأبت عليه، في إشارة إلى انتمائها إلى الريف المصري، غير متنكرة لأصولها. وقد كتبت العديد من المقالات في “جريدة الأهرام” تتناول فيها مشاكل الريف ومعاناة ساكنته.
وساهمت عائشة بنت الشاطئ بجهود عظيمة في دراسة الأدب العربي، وحرصت على تقديمه بصورة منهجية جديدة. كما برعت في إبراز دور اللغة العربية، والغوص في أسرارها، فكان كتابها الشهير “التفسير البياني للقرآن الكريم”.
أما في كتابها “من أسرار العربية في البيان القرآني”، فقد بينت “بنت الشاطئ” أثر دراسة البيان القرآني في معرفة أسرار اللغة العربية في دراسة منهجية دقيقة للحرف واللفظ القرآني في المصحف كله. ومع بيان سياقه الخاص في الآية والسورة، وسياقه العام في القرآن الكريم كله، وهو المنهج الذي تأثرت فيه بأمين الخولي.
قال الدكتور “مصطفى الشكعة” في مقدمة هذا الكتاب: “إن الدكتورة عائشة عبد الرحمن واحدة من العالمات المسلمات العربيات القلائل اللاتي عشن في رحاب القرآن الكريم، يتفيأن ظلاله القدسية، ويستلهمن هدايته السماوية، ويستشعرن أصول الإنجاز الإلهي كلما تمثلن آياته الكريمة تلاوة أو دراسة أو ترديدا”.
وفي الأول من شهر ديسمبر 1998، رحلت الدكتورة عائشة عبد الرحمن، بعد عمر حافل بالعطاء، فقد كتبت حوالي أربعين كتابا في كافة المجالات، وبالأخص الدراسات الإسلامية والأدبية، من أبرزها:
– التفسير البياني للقرآن الكريم.
– القرآن وقضايا الإنسان.
– تراجم سيدات بيت النبوة …
ولها أعمال أدبية وروائية أشهرها: “على الجسر بين الحياة والموت”؛ وهو عبارة عن سيرة ذاتية.
ولها العديد من الدراسات اللغوية والأدبية والتاريخية، كما كتبت الشعر والقصة.
ختاما؛ لقد كانت الدكتورة عائشة عبد الرحمن رائدة من رواد الفكر المستنير في القرن العشرين، ومثالا للعطاء العلمي الإسلامي المستميت، وبإرادة من حديد وعزيمة قوية، اقتحمت العديد من العقبات في سبيل مواصلة تعليمها، وأثبتت على مدى ستين عاما من البذل العلمي والفكري أن تكون رمزا من رموز الوعي النسائي بإيمان عميق بنصر الله وتوفيقه، وثقة في النفس وحب للبحث والعلم إلى غاية الممات.
لائحة المراجع
– مجلة دعوة الحق، مجلة شهرية تعني بالدراسات الإسلامية وبشؤون الثقافة والفكر، أسست سنة 1957، العدد 335 – محرم – صفر – مايو – يونيو 1998.
– أعمال ندوة عقدتها جمعية دراسات المرأة والحضارة، جامعة قرطبة 2010، منى أبو الفضل، أماني صالح، هند مصطفى: بنت الشاطئ: خطاب المرأة أم خطاب العصر؟ “مدارسة في جينولوجيا النخب الثقافية”.
– عائشة بنت الشاطئ (1986)، على الجسر بين الحياة والموت، مصر: الهيئة المصرية العامة للكتاب. ص 16 بتصرف.
– خليل أحمد خليل أحمد، موسوعة أعلام العرب المبدعين في القرن العشرين.