المرأة والسياسة: ملاحظات أولية
يبدو أن موضوع المرأة من المواضيع التي لا يطالها التقادم، إذ ما تزال البحوث مستمرة لفهم قضيتها وامتداداتها في الزمان والمكان، والنبش في التفسيرات المختلفة العلمية والثقافية والنفسية وغيرها للظفر بفهومات متقبّلة إنسانيا في عصر التحرر والتقدم دون الانسلاخ عن الهوية والاعتزاز بالانتماء للدين الإسلامي الحنيف، استشرافا لمستقبل أفضل وتصالحا بين قطبي الإنسانية المرأة والرجل.
لقد عاشت المرأة عبر تاريخها واقع الاستضعاف والتهميش والنظرة الدونية لها، إلا من لحظات مشرقة خفت بريقها أمام ركام تاريخي مظلم مكفهر. فما الذي يبرر ذاك الواقع؟ وما هي الدواعي التي فرضت الانتفاض والدعوة إلى تصحيحه؟ وماهي الإنجازات التي تمّ تحقيقها في قضية المرأة؟ وما مميزات الطرح الإسلامي المعاصر والتحديات المستقبلية المطروحة أمام قضية المرأة. لاندّعي الإجابة على كل هذه الإشكالات الكبيرة في هذه المقالة القصيرة بقدر ما سنركز على إشكال محدد له ارتباطات بالتساؤلات السابقة وهو: مادور المشاركة السياسية للمرأة في خدمة قضيتها وتحقيق النهضة المجتمعية في ظل واقعها المشار إليه مع محاولة فهم أسباب هذا الواقع وقراءة تداعياته المستقبلية؟
قضية المرأة وهم أم حقيقة
لعل من أسوأ تداعيات النظرة الدونية للمرأة عبر تاريخها، طردها من الحياة العامة ومن بناء الحضارة الإنسانية، وهذا الواقع لم يقتصر على المرأة العربية أو المسلمة إذ تؤكد الباحثة الاجتماعية جين شيفرد أن المفاهيم الأساسية عن تفوق الذكر وتدني الأنثى ظلت ماثلة بلا تغيير إلى الحقبة المعاصرة في الغرب الاوربي.
وفي العالم الاسلامي حكم على المرأة بعد عهد النبوة والخلافة الراشدة أن تبقى حبيسة جدرانها وجهلها لحماية المجتمع من “فتنتها وشرّها” وتظلّ متاعا ماتعا للرجل، يقول الامام ياسين واصفا لهذا الواقع في كلمات مقتضبة عن المرأة في عصر الطوائف بالأندلس الإسلامية “كانت في الحريم مع مئات الجواري والأربع حرائر التي يستبدل بقديمهن الجديد كما تستبدل الأحذية” . واقع مرير! لكنه كان مرضيا من قبل الذكورة. فما الذي استدعى الحديث عن تغيير هذا الواقع.
للأسف أن باعث التغيير في العالم الإسلامي لم يكن ذاتيا نتيجة وعي جماعي أو حتى نخبوي بواقع الانحطاط العام وانحطاط المرأة بشكل خاص، إنما استفاق من استفاق على وقع صدمة حضارية كشفت الهوّة السحيقة التي يتردّى فيها الوعي بالحقوق عامة وخاصة في بلادنا العربية والاسلامية: حق التعليم- حق التعبير- حق اختيار الحكام….وحق المرأة في الإنسانية الكاملة.
لذلك مهما قلنا عن سلبيات الحضارة الغربية في امتهان المرأة وتشييئها، فالحق أن الفضل يرجع إليها في إثارة مظلوميتها في الحقبة المعاصرة. فانقسمت النخبة في بلادنا قسمين: مغربون انبطحوا وانبهروا وقلدوا وثاروا، وغيورين صادقين انتبهوا للواقع المهين الذي تعيشه المرأة، وأنه قمين بجعلها تثور على كل شيء: الأعراف والعادات والتقاليد، والخشية أن تنتفض ضد الدين، إذ كان أعداء المرأة يمتهنونها باسمه وهو بريء من ادعاءاتهم براءة الذئب من دم يوسف!
كانت الخشية إذن أن تتحول المرأة بسبب معاناتها باسم الدين الإسلامي معول هدم لما تبقى من ذلك المحبوب الغالي الذي حفظ للأمة استقرارها النفسي والاجتماعي حتى مع توالي الضغوطات العسكرية والسياسية على بلادنا من “الآخر”، “العدو”، “المستعمر”.
فرضت تلك الخشية مراجعة الرواسب الفكرية والعودة إلى الأصول لتصحيح ما يمكن تصحيحه وشرح أو تأويل ما يستدعي الشرح أو التأويل، واتهام الأقدمون إذ تركوا موروثا فيه دخن كبير، وإنما كان اجتهادهم في مسألة المرأة منسجما مع انحطاط المجتمع الاسلامي بعد الخلافة الراشدة.
لكن الأهم في كل ما حدث هو الاعتراف بمظلومية المرأة وقضيتها في العالم الإسلامي، إذ كان لايلتفت إلى ذلك البتة وخاصة بعد التهديدات المرعبة للبلاد والعباد منذ القرن التاسع عشر الميلادي، وتمّ الوعي أنها قضية وإن كانت ضمن قضايا الأمة العديدة ولكنها متميزة بذاتها، لأنه إذا كانت عموم الأمة عانت – بعد الخلافة الراشدة- من الاستبداد السياسي والاقتصادي، فقد كابدت المرأة بالإضافة إليهما استضعافا اجتماعيا ونفسيا من قبل الرجل، وما حصل ذلك إلا لأن الرجل بات هو نفسه ببنية نفسية غير سليمة فالكل مرتبط ومشتبك.
من حسنات الصدمة الحضارية تحقيق الوعي لدى نخبتنا أن الحضارة التي تكون فيها المرأة على الهامش حضارة كسيحة، فبصمة المرأة في التغيير والإصلاح والنهضة متميزة في ذاتها ومكملة لجهود الرجال، وقد اعتبرت شيفرد أن العودة إلى الأنثوية هو عود لروح الحضارة المادية الغربية ، وهو ما أكده الإمام ياسين في سياق تعليقه على الأحاديث التي تحثّ على التدرج واللين والرفق واليسر التي ترويها أمنا عائشة رضي الله عنها، إذ قال ” وللمومنة في فقه التغيير وتفقيه الرجال بأسلوبه المرتبة الاولى، وقد ألح رحمه الله على ضرورة مشاركة المرأة في التغيير، ودعاها إلى حمل لواء معركتها بنفسها، وأن تقتحم عقبات جمّة في طريقها أهمها عقبة النفس كي تتمكن من إثبات حضورها المتميز والواعي في المجتمع .
وقد نادى مفكرون آخرون ومن توجهات وتيارات مختلفة بضرورة تأهيل المرأة وإشراكها في الحياة العامة وخاصة الحياة السياسية، ولكن يبقى السؤال حول أهداف ومرامي هذه الصيحات. بأسلوب أوضح: هل توضّح بشكل جلي للمرأة وللمجتمعات الإسلامية لماذا يجب أن تشارك المرأة في السياسة؟ هل تحتاج مجتمعاتنا حقا لمشاركتها؟ أم تحتاج هي لاثبات قوة شخصيتها ورجاحة عقلها؟ أم هي استجابة لدعوة ربانية أونهضة حضارية؟
إنها إشكالات كبرى ومتداخلة، لكننا نسجل كملاحظة أولية أن الصورة الغالبة في مجتمعاتنا العربية والاسلامية ما تزال إما طاردة للمرأة من المشاركة السياسية أو اعتمادها كصورة تجميلية وأرقام لحمل وسام التحضر والانفتاح، مما يوحي أن الوعي الذكوري ما يزال يرى أن المكان الطبيعي للمرأة هو البيت وأن أي مهمات أخرى تبقى ثانوية بالنسبة للمجتمع، والعمل السياسي قادر على السير والإنتاج بدونها.
على أرض الواقع ما يزال يسجل ضعف مساهمة المرأة سياسيا رغم الجهود المبذولة لإشراكها ولو شكليا في كافة المؤسسات والمجالس التي تعنى بتدبير الشأن العام، مما يوحي أن هناك عوائق ظاهرة ومستترة تحول دون المشاركة المشرفة للمرأة في الحياة السياسية.