حين سمعت بإعلان الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان تبادرت إلى ذهني مجموعة من الأسئلة تهم قضية التأصيل وخلفية الرؤية التي تحكم هذه الوثيقة؛ ذلك أن عبارة “الوثيقة السياسية” قد تحيل مباشرة إلى فن تدبير مصالح الناس. وإذا كان الأمر هكذا، فإن الوثيقة ستعني البرنامج السياسي للجماعة. فإلى أي حد يصدق هذا التمثل على الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان؟ في حالة تأكيد هذا التمثل، أليس هذا تضييقا للتصور الشمولي للجماعة؟ أليست “السياسة” بمعناها المتداول بعضا من شأن الجماعة كما يقول الإمام رحمه الله؟
هذه الأسئلة، وغيرها، دفعتني إلى متابعة الندوة الصحفية المتعلقة بإعلان الوثيقة علني أظفر ببعض الإجابات، ثم بعد ذلك قراءة الوثيقة قراءة ناقدة، وفق منظار التأصيل: هل حضر في الوثيقة بعد التأصيل؟ وهل بها أصالة الرؤية؟
للإجابة عن هذه الأسئلة سنتوقف عند الفصل التمهيدي للوثيقة، والذي يحمل عنوان: “المنطلقات والأهداف”. وقد قادنا النظر فيها إلى استخلاص التأصيل من القرآن الكريم ومن نظرية المنهاج النبوي.
1- التأصيل من القرآن الكريم
وردت في هذا الفصل التمهيدي خمس آيات:
أولا: الاستشهاد بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ (النحل: 90).
هذه الآية جاءت مرافقة لعنوان “المنطلقات والأهداف في الوثيقة”، وهي كما نعلم تلخص شعار جماعة العدل والإحسان، وهي كما تنص الوثيقة “حركة إسلامية دعوية تربوية، وظيفتها الدعوة إلى الله بمعناها الشامل خدمة للإنسان ونشرا لقيم الخير والفضيلة في المجتمع” 1.
كما أن كاتب الوثيقة يريد من القارئ أن يفهم أن منطلقات الوثيقة وأهدافها تلخصها هذه الآية الكريمة، وتختزل المقصدين الأعظمين؛ العدل والإحسان.
ثانيا: الاستشهاد بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ (الرعد: 12).
هذه الآية الكريمة جاءت في سياق تأكيد أهمية الأبعاد المادية للتنمية، لكن مع استحضار الأبعاد التربوية والأخلاقية؛ فلا يمكن للإنسان أن يحقق تنمية أو تقدما وهو عديم التربية والأخلاق، وإلا صار كل ذلك وبالا عليه وعلى الإنسانية كلها. هذا التأكيد نجده ضمن حديث الوثيقة عن تشييد العمران الأخوي بعد حديثها عن بناء الإنسان، باعتباره أولوية في المشروع السياسي للجماعة، وقبل الحديث عن ترسيخ القيم الإسلامية في تأسيس مفهوم المواطنة.
ثالثا: الاستشهاد بقوله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (الإسراء: 70).
جاء الاستشهاد بهذه الآية الكريمة في سياق الحديث عن هدف صون الكرامة الآدمية باعتباره هدفا من الأهداف العامة للمشروع السياسي، وهي: بناء نظام شوري؛ تحقيق العدل بمعانيه الشرعية وأبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقضائية؛ صون الكرامة؛ تحقيق الحرية؛ ترسيخ الوحدة والتعاون.
بعد الاستدلال بالآية الكريمة تقول الوثيقة: “ففي دوس كرامة الإنسان عصيان لله عز وجل، وفيه سلب لآدميته وأفضليته” 2.
رابعا: الاستشهاد بقوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (النور: 53).
هذه الآية الكريمة وردت في الوثيقة دعما لخاصية الوسطية والاعتدال التي جاءت ضمن خصائص المشروع السياسي. وهذه الخصائص هي: الأصالة؛ تكامل الأبعاد؛ الوضوح؛ النسقية؛ المستقبلية؛ التدرج والمرونة.
وردت الآية الكريمة بعد أن أكدت الوثيقة أن “إقامة التوازن بين الأساس التربوي والعمل السياسي مطلب من مطالب المشروع السياسي للجماعة، بما يحقق تلازم الأخلاق والسياسة على مستوى الخطاب والممارسة، وتلازم السلوك الإيماني والمسعى الاستخلافي، الذي يعد عنوانا لتحقيق مطالب العدل والعمران الأخوي واستعادة فاعلية الشهود الحضاري لأمتنا الإسلامية” 3.
خامسا: الاستشهاد بقوله تعالى: وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ (البقرة: 142).
هذه الآية جاءت توضيحا للتوازن المذكور أعلاه بين الأساس التربوي والعمل السياسي؛ ذلك أن “اقتران التوازن في المشروع السياسي للجماعة بالوسطية باعتبارها مبدأ إسلاميا أصيلا، يقي من التشدد والتطرف بكل أنواعهما، ويحقق الرفق والتيسير والرحمة للعالمين، ويجسد الانتماء الفعلي لأمة الإسلام” 4.
2- التأصيل من نظرية المنهاج النبوي
وردت في هذا الفصل ثمانية نصوص من نظرية المنهاج النبوي، ومن كتب مختلفة، كالتالي:
أولا: نصُ الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: “وليس التغيير الذي نقول به ونعمل عليه مشروعَ تنمية يقف عند التنمية، أو مشروعَ عدالة اجتماعية ينْحَدُّ في إدماج اجتماعي يُقارب بين طبقات الناس في المعاش، أو مشروعَ حضارة مهدّدةٍ تدافع عن وجودها وبقائها يكون بقاؤها غايةَ الـمُنى وازدهارُها النصرَ الـمُبين، ولا مشروعَ هُوَيّة يُخْشى عليها أن تذوب وتضمحلّ في الهُوَيَّات الغالبةِ ويكون الحِفاظُ عليها من الاندثارِ أقصى ما تصبُو إليه الأمة. التنميةُ وشروطها، والتميّز الحضاري ولوازمه، والعدالة الاجتماعية وما تُقرب وما تدمج، والهُوَيّة الخاصَّةُ وما تحافظ، كل هذه مجالاتٌ للتغيير الذي ننشُدُه، جسمٌ ومظهَرٌ. الروح المحرِّكة التي بها تحيا التنمية، وتتأتّى العدالة، وتتألق الحضارة، وتتميز الهوية، إن لم تكن روح الإيمان بالله ورسوله، وشريعةَ الإسلام فإنما نحن ناس من الناس. لا نكون خير أمة أخرجت للناس كما يريد الله تعالى لنا” 5.
أوردت الوثيقة السياسية هذا النص 6 في بداية الحديث عن المنطلقات والأهداف، وذلك من أجل تأكيد أن التغيير السياسي في مشروع الجماعة يرتبط بشكل وثيق بالمشروع الدعوي العام وبالتغيير التربوي والأخلاقي. وهذا ينسجم مع الغايتين أو المقصدين الأعظمين العدل والإحسان.
ثانيا: نص الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: “المستقبل لتغيير عميق شامل. تغيير من داخل الإنسان، من تربية الإنسان، من تعليم الإنسان. التغيير أجيال، التغيير أمهات صالحات، التغيير مدرسة صالحة، التغيير مَنَعةٌ ضد الامتداد السـرطاني للثقافة الدوابية، التغيير إعادة بناء الأمة على أصولها، التغيير تعبئة أمة، قومة أمة” 7.
هذا النص نجده تحت العنوان الفرعي الأول: جماعة العدل والإحسان: الهوية والمرجعية والشعار، وذلك بعد أن بينت الوثيقة السياسية أن المرجعية التنظيرية لجماعة العدل والإحسان تنطلق من المنهاج النبوي. “فهو في مستوى التصور يحدد المنطلقات والمبادئ، ويرسم الأهداف والغايات، ويضبط الوسائل، ويرتب المراحل، وينظم الفعل الدعوي والمجتمعي لجماعة العدل والإحسان في إطار مجتمعي تغييري مطلبه الآني العدل، وغايته الإحسان، وأداته العملية الأساسية: التربية، ثم التربية، ثم التربية” 8.
ثالثا: نص الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله “لا ترضى جماعة العدل والإحسان بهدف اجتماعي سياسي دون العدل على شريعة الله، ولا ترضى بغاية تتطلع إليها همم المؤمنين والمؤمنات دون الإحسان. الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، الإحسان أن تحسن إلى الناس، الإحسان أن يحسُن عملك، الإحسان أن تُجيدَ وتفيد” 9.
في نفس السياق أعلاه، أي تبعا للحديث عن الهوية، نجد هذا النص الذي أتى بعد بيان دلالات شعار العدل والإحسان؛ فالوثيقة تبين أن هذا الشعار “ليس مجرد شعار ورمز يريد التميز عن العناوين السائدة في الساحة الدعوية الإسلامية، بل إنه شعار يلخص رؤيتها الفكرية والتربوية والسياسية…” 10 مع التنبيه، كما سبق، إلى أن العدل والإحسان غايتان متلازمتان.
رابعا: نص الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله “التربية قَدْحُ زِنادٍ في القلب والعقل، إشعالُ فتيلٍ، تعبئة طاقاتٍ فرديّةٍ لتندمج في حركية اجتماعية يَعْمَل فيها العاملون بجهْدٍ مُتكامِلٍ ينفع الله به الأمة” 11.
تحت العنوان الفرعي الثاني من منطلقات الوثيقة وأهدافها نجد فقرة بعنوان بناء الإنسان، وبه كلام مفصل عن تربية الإنسان باعتبارها قضية مركزية في مشروع جماعة العدل والإحسان. وقبل إيراد هذا النص تشير الوثيقة إلى أن التربية “جوهر محرك عملية التغيير في الفرد والجماعة والأمة، وهي على هذا الأساس ديناميكية متكاملة الأركان، تشتغل على إعادة صياغة الإنسان إيمانا ورحمة في قلبه، وفهما وحكمة في عقله، وتوفيقا وسدادا في حركته” 12.
خامسا: نص الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله “في مجتمع العمران الأخوي المنشود، المسبوق بتربية وتزكية وتعليم، يستنبط المسلمون دستور سلوكهم فيما بينهم وعهود تعاملهم مع الخَلْق الدولي، والخلق الطبيعي، والبيئة المشتركة، من القرآن كل القرآن، ومن السنة كل السنة” 13.
في فقرة تشييد العمران الأخوي التي تنتمي إلى العنوان الفرعي الثاني المتعلق بأسس المشروع السياسي وغاياته نجد هذا النص الذي ورد توضيحا لدلالات مجتمع العمران الأخوي؛ الذي يعتبر غاية هذه الوثيقة. إن مجتمع العمران الأخوي وصف “نجمع فيه إلى جانب كل الوسائل المادية للحياة الإنسانية اللازمة لعمارة الأرض وإنمائها والحياة فيها وتجنب الإفساد فيها معاني الولاية العامة محبة وتعاضدا وتعاونا وتكافلا، على قواعد الأخوة الإيمانية والأخوة الإنسانية” 14.
سادسا: نص الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله “لن نكون إلا معارضةً من المعارضات تنتقد الحكم وتطعن في كفاءته إن لم نتعرض لأصول الحكم الجائر باعتباره خرقا في الدين وانتحالا تزويريا لقداسة الدين قبل كل شيء” 15.
تحت فقرة الأهداف العامة للمشروع السياسي نجد هذا النص، وذلك عند الحديث عن الخط السياسي. إن استراتيجية التغيير السياسي عند جماعة العدل والإحسان تقوم على معنى وخط وأهداف. وبعد حديث الوثيقة عن الخط السياسي جاء هذا النص معضدا وموضحا كون جوهر الخط السياسي للجماعة يقوم على “مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمعارضة الشرعية القائمة على الشهادة بالقسط والكينونة مع المستضعفين قبل أن تكون معارضة تدبير المعاش والاقتصاد” 16.
سابعا: نص الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله “العدل أم المصالح التي يقصد إليها الشرع. هو صُلب الدين، وحوله تُطيفُ همومُ المسلمين، وبه بعث الله الرسل والنبيئين، مبشرين ومنذرين” 17.
هذا النص ورد توضيحا لهدف تحقيق العدل بمعانيه الشرعية وأبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقضائية، وذلك ضمن فقرة الأهداف العامة للمشروع السياسي التي وقفنا عندها قبل قليل. والأهداف التي أجملتها الوثيقة، إضافة إلى هدف تحقيق العدل هي: بناء نظام شوري؛ صون الكرامة؛ تحقيق الحرية؛ ترسيخ الوحدة والتعاون.
ثامنا: نص الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله “الانكسار التاريخي حدث محوري في تاريخ الإسلام، وسيبقى فهمنا لحاضر الأمة ومستقبلها مضببا بل مشوشا غاية التشويش إن لم ندرك أبعاد تلك الأحداث وآثارها على مسار تاريخنا” 18.
يعد مفهوم الانكسار التاريخي مفهوما من إبداع الإمام عبد السلام رحمه الله، وقد وظفته الوثيقة عند حديثها عن بناء نظام شوري. وبما أن الوثيقة جاءت لعموم الناس فكان لا بد من توضيح دلالات هذا المفهوم، لذا أوردت الوثيقة هذا النص في الهامش.
خلاصة
حاولنا من خلال هذه الجولة السريعة في منطلقات الوثيقة السياسية وأهدافها من خلال منظار التأصيل سواء من خلال القرآن الكريم أو من خلال نظرية المنهاج النبوي أن نجيب عن سؤال أصالة الرؤية في هذه الوثيقة، فهي تعبر تعبيرا أصيلا عن نظرية المنهاج النبوي كما أثل لها الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله. وتجدر الإشارة إلى أنه إضافة إلى هذين البعدين التأصيلين فإننا نجد بعدا آخر طاغيا هو البعد الذي يمثله الجهاز المفهومي الموظف؛ ذلك أن هناك كثيرا من المفاهيم التي تعبر عن أصالة الرؤية في هذه الوثيقة. من هنا، إذا جاز لنا وضع عنوان آخر للوثيقة فإن القارئ لن يتردد في تسميتها بوثيقة المشروع المجتمعي أو وثيقة مجتمع العمران الأخوي… وقد يتيسر لنا أن نعود إلى هذه القضايا بشيء من العمق والتفصيل بإذن الله.
[2] نفسه ص 26.
[3] نفسه ص 28.
[4] نفسه ص 29.
[5] عبد السلام ياسين، الشورى والديمقراطية، ص 271-272.
[6] أوردت هذا النص كاملا رغم طوله وفاء بالمقصود وحقيقا لأغراض هذا المقال. وهذا هو الشأن مع باقي النصوص.
[7] عبد السلام ياسين، الإسلاميون والحكم، ص 691.
[8] الوثيقة السياسية، ص 18.
[9] عبد السلام ياسين، رسالة تذكير، ص 8-9.
[10] الوثيقة السياسية، ص 19.
[11] عبد السلام ياسين، حوار الماضي والمستقبل، 84.
[12] الوثيقة السياسية، ص 21.
[13] عبد السلام ياسين، محنة العقل المسلم بين سيادة الوحي وسيطرة الهوى، ص 60.
[14] الوثيقة السياسية، ص 22.
[15] عبد السلام ياسين، العدل الإسلاميون والحكم، ص 104.
[16] الوثيقة السياسية، ص 24.
[17] عبد السلام ياسين، العدل الإسلاميون والحكم، ص 221.
[18] عبد السلام ياسين، نظرات في الفقه والتاريخ، ص 27.