أعظمُ ما أنفقت أجرًا…

Cover Image for أعظمُ ما أنفقت أجرًا…
نشر بتاريخ

كنت في الحي الذي أقطن فيه وكل جاراتي نتفق على إهداء كل واحدة منا كلما حلت عندها مناسبة (زواج، ولادة، مأتم…) ترسيخا لعادة اجتماعية طيبة وتأليفا للقلوب وإحياء لمعاني الأخوة والتكافل الاجتماعي وحسن الجوار الذي أوصى به الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولكني لاحظت أن إحدى الجارات تتجنب دائما مشاركتنا هذا الأمر، فهمني أمرها وتساءلت عن سبب امتناعها، وقلت في نفسي ربما لا تدرك هذه السيدة فضل هذا الأمر، فقررت أن أخصها بزيارة أقدم لها من النصح ما رأيته واجبا علي، ولكني وجدت مفاجئة لم تكن في الحسبان..

فقد اكتشفت بعد التحدث إليها أنها من أطيب خلق الله،وشعرت بحرجها الشديد حين أثرت الموضوع معها، وبعد طول تردد قالت : أصارحك جارتي العزيزة لما أعهده عندك من أمانة المجالس أنني أعاني معاناة شديدة مع زوجي في مسألة النفقة، فهو يعتبر نفسه القيم على البيت بما فيه أنا،وحدود واجباته في النفقة الأكل والشرب، بل إن حاجياتي الخاصة وحتى حاجيات الأطفال هو من يقتنيها وبذوقه ومتى رأى هو ضرورة ذلك، ولا حق لي في مناقشة المسألة المادية للأسرة ولا أعرف عنها أي شيء، ومع هذا الفهم فهو لا يمنحني ما أستطيع أن أتدبر به شأني وحاجياتي الخاصة بدعوى أنه يقوم بالواجب. وهذا هو العائق الأساسي في امتناعي عن مشاركتكن ما تقمن به،فمن أين لي بالمال الكافي لذلك؟

ذهلت في بداية الأمر لما سمعته ولكن رجعت إلى نفسي لأتذكر أن هذه المعاناة تعم كثيرا من البيوت، وقلت لنفسي إن هذا الزوج- وأمثاله- لا ينقصه بالتأكيد حسن الخلق، وليس الدافع لبخله مع زوجته عدم حبه لها ولكنها غلبة العادة وثقل الأعراف والجهل بالسنة النبوية الرحيمة الرفيقة التي تعلمنا حسن المعاشرة واللين مع الأهل والذوق الرفيع في أبهى تجلياته.

1- فضل النفقة على الأهل

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:“دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة ودينار تصدقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك”ويقول صلى الله عليه وسلم:“إن نفقتك من مالك لك صدقة وإن نفقتك على عيالك لك صدقة وان نفقتك على اهلك لك صدقة وانك أن تدع اهلك بعيش أو قال بخير خير من أن تدعهم يتكففون الناس” وعن حمد بن أبي حميد عن المطلب بن عبد الله المخزومي قال دخلت على أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا بني ألا أحدثك بما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قلت بلى يا أمه قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :“من انفق على بنتين أو أختين أو ذواتي قرابة يحتسب النفقة عليهما حتى يغنيهما الله من فضله عز وجل أو يكفيهما كانتا له سترا من النار”وعن حكيم بن خزام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :“أفضل الصدقة أو خير الصدقة عن ظهر غنى واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول”فما أجمل أن تتقرب أيها الزوج إلى زوجتك بالتوسعة عليها في النفقة فتكسب قلبها،فهذا من تمام المعاشرة بالمعروف التي يأمر بها الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز:وعاشروهن بالمعروف فطيب خاطرها بما ترضاه في إطار الممكن والمعقول واعلم أن المودة والرحمة والتساكن مستحيلة بين نفوس تقف بينها حواجز ومشاكل الحياة اليومية، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طيب المعشر لين الجانب لا يرد من طلبات زوجاته إلا ما كان غير مقدور عليه، فهلا تأسينا به صلى الله عليه وسلم؟

2- البخل انحراف عن السنة

بقدرماحث الحبيب صلى الله عليه وسلم الرجل على الإنفاق على أهله نجده يحذره من البخل، اخرج البزار بإسناد حسن والطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال :“دخل النبي صلى الله عليه وسلم على بلال وعنده صبر من ثمر فقال ما هذا يا بلال ؟ قال أعد ذلك لأضيافك فقال : ما تخش أن يكون لك دخان في نار جهنم. انفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا”ومن البخل أن يضيق الزوج على زوجته في النفقة وان لا يجعل لها قسطا من ماله تنفق منه على بعض حاجياتها الخاصة. وإذا كان الزوج هو القيم على البيت بما فيه المرأة، فليس معنى هذا أن يشتري لها هو كل حاجياتها حسب ذوقه وإرادته ووقت ما شاء، ولا يعني هذا أن لا شأن للزوجة بالأمور المادية للأسرة أو أن ليس لها رأي أو حق في معرفة ما يتعلق به، فتعيش في خانة التهميش حيث لا فكرة لديها عن الدخل الحقيقي للزوج أو ما يوفره أو ما يفكر فيه من مشاريع مستقبلية على أساس أن المرأة ليس لها ما تفيد به خارج إطار شغل البيت وتربية الأبناء. فالمشورة والاستشارة والانفتاح على الآخر هي من الدعائم الأساسية لبناء أسرة متماسكة قوية.

3- ما العمل مع زوج شحيح؟

جاءت هند بنت عتبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشتكي بخل زوجها فقالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم فقال :“خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف” 1 وعن أسماء رضي الله عنها قالت : قلت يا رسول الله ما لي مال إلا ما أدخل علي الزبير أفأتصدق؟ قال :“تصدقي ولا توعي فيوعى عليك”وفي رواية “أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك” 2 فهذه الأحاديث وغيرها تعطي للمرأة حقا في مال زوجها ودون علمه في حدود المعروف طبعا وبما يضمن كرامتها إن تنحى هو عن هذه المسئولية. وهذا لا يعني بحال أن تبذر المرأة مال زوجها، بل عليها أن تتذكر أنها مستأمنة عليه،حافظة له“كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته”

4- تمام الانحراف

أدهى من البخل ما نلاحظه عند بعض الرجال الذين يعطون لأنفسهم الحق في التصرف في مال المرأة دون رضاها أوتفويض منها سواء كانت هذه المرأة زوجة أو أختا أو بنتا أو أما وكيف ما كان مصدر هذه المال إرثا أو وظيفة أو تجارة أو صنعة وهذا أبعد ما يكون عن السنة والمروءة.

5- الإحسان متبادل

هل نفهم من كل هذا أن المرأة بعيدة كل البعد عن النفقة وما يليها بحكم أنها غير ملزمة بها خصوصا إذا كان الزوج معسرا أو غير قادر على الكسب والزوجة قادرة على مد يد العون بأي صورة من الصور، وظيفة أو تجارة أو إرثا أو صنعة؟

عن رائطة امرأة عبد الله بن مسعود وأم ولده وكانت امرأة صناع اليد قال وكانت تنفق عليه وعلى ولده من صنعتها قالت :فقلت لعبد الله بن مسعود لقد شغلتني أنت وولدك عن الصدقة فما أستطيع أن أتصدق معكم بشيء فقال لها عبد الله والله ما أحب إن لم يكن في ذلك أجر أن تفعلي فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني امرأة ذات صنعة أبيع منها وليس لي ولا لولدي ولا لزوجي نفقة غيرها وقد شغلوني عن الصدقة فما أستطيع أن أتصدق بشيء فهل لي من أجر فيما أنفقت)قال فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : “أنفقي عليهم فإن لك في ذلك أجر ما أنفقت عليهم”وعن أم سلمة قالت : قلت يا رسول الله، ألي أجر أن أنفق على بني أبي سلمة،إنما هم بني؟ فقال :“أنفقي عليهم،فلك أجر ما أنفقت عليهم”ويزداد ندب المرأة للإنفاق في حال عجز الزوج عن الكسب أو في حالة وفاة الزوج وهي بذلك تحقق فضيلتين : فضيلة صلة القربى إلى جانب فضيلة البذل في سبيل الله.

وأخيرا إلى كل الأزواج: إن الأصل في العلاقة الزوجية أنها مبنية على التكارم والإحسان لينعم الزوجان بحياة أفضل ويبقى أن المال وسيلة وليس غاية في حد ذاته،فلا بد أن يسخر كل من الرجل والمرأة على السواء ما يملكان لسعادة وبناء الأسرة، متجاوزين كل أنانية تجعل من حب التملك حاجزا مانعا للتواصل القلبي ومكدرا على رحلتهما إلى دار الخلود حيث لاهم ولاغم ولا تعب ولا نصب.


[1] رواه مسلم والبخاري
[2] رواه مسلم والبخاري