أمام ما يتعرض له إخواننا في غزة، وفظاعة وهول ما نشاهد من تقتيل وذبح وتشريد وتجويع وتعطيش، يتساءل الكثير من المسلمين متى نصر الله؟ وحق لهم أن يتساءلوا.
نقرأ في كتاب الله عز وجل: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمۖ، مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِۗ، أَلَآ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ (سورة البقرة، 214)
تخبرنا الآية الكريمة كما يوضح المفسرون رحمهم الله، أن سنة الله عز وجل أن يَبتَليَ عبادَه المؤمنين بشتى أنواع الابتلاءات، من فقر (البأساء) وأمراض (الضراء) وخوف ورعب وترويع وتهجير وإذلال ونفي وقتل (زلزلوا)، حتى تصل بهم شدة الأمر وضيقه إلى استبطاء نصر الله والسؤال عن نصره، والاستفهام المستعجل للخلاص من العذاب الشديد.
هذا ما تعرض له من سبقونا بإيمان من الأمم السابقة، فضاقت بهم الأرض بما رحبت، فجهروا بالسؤال، وتضرعوا مستغيثين بما يشبه القنوط واليأس: متى نصر الله؟
ويأتي الجواب واضحا جليا ألا إن نصر الله قريب؛ فوعد الله حق، ومن أقوم من الله قيلا وأصدق منه وعدا وأوثق إنجازا؟
فسنة الله في التدافع تقتضي أن ينزل من النصر نظير ما يكون من الشدة وعلى قدرها…
وفي حديث أبي رزين: (عجِب ربُّنا من قُنوطِ عِبادِه وقُرْبِ غِيَرِهِ، ينظر إليكم أزْلين قنطين، فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب) (حديث حسن، أخرجه الإمام أحمد في مسنده).
والأَزْلُ: الضِّيقُ وَالشِّدَّةُ، والغِيَر: التغيير وقرب تغيير الشيء من حال إلى حال .
قال فيه ابن القيِّم رحمه الله في “زاد المعاد”: “هذا حديثٌ كبير جليل، تُنادي جلالَتُه وفخامته وعظمته على أنَّه قد خرج من مشكاة النبوَّة..”!
سبحان الله، يضحك عز وجل -كما يليق بجلاله وعظمته- لاستبطاء عبادِه نصرَه لعلمه عز وجل، وهو بكل شيء عليم محيط، أن الفرج قريب، فالعسر لا يخلو من يسر يصاحبه ويلازمه، والضيق مقرون بفرج يرادفه ويناسبه.
ولعل من مظاهر هذا الوعد الرباني الوشيك وبشرياته الجلية في زمننا الكئيب، ما نراه من صمود أبناء غزة والضفة وشبابها أمام جرائم الإبادة الهمجية وحرب التطهير العرقي التي يشنها اليهود الصهاينة ضدهم، وثباتهم وشموخهم ورفضهم الخنوع والخضوع، واستمرارهم مقاومة المعتدي والذود عن أرضهم وشعبهم ودينهم، متحدين بإيمانهم وتوكلهم على المولى عز وجل ويقينهم في نصره، آلية الدمار اللاإنسانية والرهيبة التي تدمر كل شيء في طريقها، وتطحن الإنسان والحيوان والنبات، بما جهزت به من عتاد وأسلحة من آخر ما تفتقت عنه “العبقرية الجهنمية الغربية” في مجال الدمار والخراب والهلاك…
أَلَآ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ رغم جبروت الصهاينة وعلوهم الكبير، ولعله العلو الثاني الذي أخبرنا به المولى عز وجل في سورة الإسراء: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا، وسيتبع هذا العلو بإذن الله، نصر الطائفة المؤمنة ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس، والدخول الثاني المحتوم للقدس بعد دخول سيدنا عمر رضي الله عنه…
ولئن تخلت عن أبناء غزة حكومات العالم غَربا وشرقا وعجما وعُربا، بعد أن انعدمت لدى حكامها وسياسيها وإعلامييها كل مقومات الإنسانية والرحمة، بل بعدما تخلى عنها العالم كله، فالله عز وجل معهم، والنصر حليفهم والتمكين مصيرهم إن شاء الله تعالى.
ولنذكر غزوة الخندق وأحداثها المروعة وهولها الرعيب حيث يقول المولى عز وجل: إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذْ زاغت الأبصار وبلغت القلوبُ الحناجرَ وتظنون بالله الظنونا، هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا (سورة الأحزاب، الآية 10)
تكالب المشركون في هذه المعركة من قريش وقبائل عربية كغطفان وبني سليم وبني أسد… ويهود بني قريظة على المؤمنين بالمدينة من كل جانب، وحاصروهم حصارا شديدا لمدة ثلاثة أسابيع بنية استئصال الإسلام في معركة حاسمة أخيرة والقضاء على دولتهم نهائيا، حصار تعرض فيه المسلمون لأقسى الأذى وأشد البأس، حتى (زاغت الأبصار) أي مالت وشخصت من الرعب، و(بلغت القلوب الحناجر) أي زالت من أماكنها وبلغت الحلوق من الفزع… بل بلغ بهم الأمر إلى الانشغال عن الصلاة، حتى قال صلى الله عليه وسلم: “ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا، كما شغلونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس.” (صحيح البخاري).
أليست هذه المشاهد شبيهة بالحرب الضروس الظالمة على غزة اليوم؟ أليست الأحداث تكرر نفسها، وتعيد دورتها، فما أشبه اليوم بالبارحة…
وفي ظل هذا المشهد المهول اختلفت الظنون؛ منافقون يأملون استئصال المسلمين، ومؤمنون يرجون النصر والظفر وهم في معمعان الجهاد وبذل النفس وجها لوجه مع سهام الموت الباطشة والرماح الطائشة.
وكذلك الأمر اليوم؛ منافقون ومن يسير على ركبهم يتهمون المقاومة بشتى التهم ويأملون استئصالها واقتلاعها من على أرض فلسطين المباركة، ومؤمنون يرددون هناك في أرض المعركة وفي كل بقعة من بقاع الأرض: “حسبنا الله ونعم الوكيل”، و”بالروح بالدم نفديك يا فلسطين”، و”إنه لجهاد، نصر أو استشهاد”.
وانتهت غزوة الأحزاب بأن سلط الله عز وجل ريحا باردة شديدة على المشركين وحلفائهم، وألقى الرعبَ في قلوبهم، وشتت جمعهم… فانسحبوا صاغرين مذعورين خائبين…
فما من عسر إلا ويعقبه يسر، وما من ضائقة إلا ويتبعها فرج، وأشد أوقات الليل حلكة ما يسبق طلوع الفجر. يقول الإمام علي رضي الله عنه:
اصبر قليلا فبعد العسرِ تَيسيرُ +++ وكل أمرٍ لهُ وقتٌ وتدبيرُ
وللمهيمنِ في حالاتنا نظرٌ +++ وفوق تقديرنا لله تقديرُ
فــ”انتظار الفرج من الله عز وجل عبادة…” كما ورد عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في حديث أخرجه الترمذي، وهو انتظار من يقوم بواجبه ومسؤوليته تجاه دينه وشعبه وأرضه وقضيته، ويأخذ بما يتاح له من أسباب، ويقدم الغالي والنفيس قربانا لطلب رضى الله عز وجل وتحرير أمته وفكها من قيود القهر والجور وسلاسل الاحتلال البغيض والإذلال.
يقول صاحب الظلال رحمه الله عز وجل في شرح ﴿ أَلَآ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ ﴾: « إنه مدخر لمن يستحقونه. ولن يستحقه إلا الذين يثبتون حتى النهاية. الذين يثبتون على البأساء والضراء. الذين يصمدون للزلزلة. الذين لا يحنون رؤوسهم للعاصفة. الذين يستيقنون أن لا نصر إلا نصر الله، وعندما يشاء الله. وحتى حين تبلغ المحنة ذروتها، فهم يتطلعون فحسب إلى (نصر الله)، لا إلى أي حل آخر، ولا إلى أي نصر لا يجيء من عند الله. ولا نصر إلا من عند الله».
فلنرفع أكفَّ الضراعة إلى الحي الذي لا يموت، بأن ينصر إخواننا في فلسطين ويخذل أعداءهم وأولياءهم أعداء الدين، عسى أن يكون من بين المتضرعين من لو أقسم على الله لأبرَّه.
ارفع أكفك يا مجاهد سائلاً
ما خاب من يرجو الكريم ويطلب
ما خاب من يرجو الإله
وعوده فالله حقٌ وعده لا يكذب
اسأله ذلَّا للذين تجبروا
فالله يقصم من يشاء ويعطب
اسأله نصراً كي يعزَّ مجاهد
واسأله بالتثبيت فهو المطلب
ارفع أكفك يا مجاهد إننا
بهوى الصبابة في الملاهي نلعب
لا يستوي عند الإله دعاؤنا
ودعاء من للكرب دوماً يطلب