ما سأرويه قصة تتكرر في أغلب البيوت وأصبحت من الأمور المعتادة كالأكل والشرب، إنها قصة طفل مع العقاب البدني، الذي يعتبره الكثير من الوالدين والمربين علاجا، لكنه في الحقيقة ينخر في النفوس كما ينخر السوس في القمح، ويترك آلاما وانكسارا وضعفا، ناهيك عن الأمراض والعقد النفسية. كانت البداية في أحد الأيام وأنا طفل صغير، طلبت مني والدتي أن أشتري شيئا من البقال لكني – وبحكم صغر سني – أخطأت فأتيت بغير ذلك، فنلت من الضرب حتى أصبح لون جسدي كقوس قزح، بدأت أتهرب من جلب أي شيء من الخارج، فإن لم أجد مفرا من الهروب، أذهب و كأني أحمق في الطريق، أردد ما طٌلب مني خوفا من العقاب . ومرة أخطأت في حل عملية حساب في الرياضيات فضربني والدي بحبل مطاطي حتى كدت أموت، أما الصفع واللكم على الوجه عند أبسط الأمور فحدث ولا حرج. ومن أفظع ما لم أستطع نسيانه أيضا ما حدث لأحد أصدقائي في المدرسة، عندما لم يوفق في الإجابة عن أحد الأسئلة، قام المعلم فضربه بعصا من الخشب حتى أحدث ثقبا في رأسه، وملأه بمسحوق طبشورة حمراء وبيضاء وقال له بسخرية »هذا الدواء سيشفيك« وبعد أيام سمعنا بوفاته. الضرب مرة ومرة، وتوالت المرات … فماذا كانت النتيجة…؟؟؟
لبسني الخوف من كل شيء : أخاف من والدي ومن أساتذتي ومن اللعب مع أصدقائي، ففي وقت الاستراحة غالبا ما أنزوي إلى جانب قسم أو مكان آخر أراقبهم من بعيد: بعضهم يلعب “الغميضة” وبعضهم يتسابق والبعض الآخر يقفز على الحبل، وكأني أمام لوحة فنية أبطالها مجموعة من الأرانب يجوبون الروابي في الحقول الخضراء، وأنا ذلك الطائر الجريح الذي يكتفي بالنظر من فوق الأشجار ولا قدرة له على المشاركة. وأحيانا أحمل نفسي على اللعب معهم، ولكن تجدني أخاف من كل حركة يقومون بها حتى أصبحت أنعت ب ” الخائف”
وهذا ما أعطاهم الجرأة على أخذ لوازمي المدرسية والضحك علي في كل حين، بل إن مكاني في القسم هو آخر طاولة فيه رغم أنني أقوم بواجباتي المدرسية على أحسن حال، وأحب أن أكون من الذين يشاركون ويدلون بآرائهم لكن يخيل إلي أنني سأعاقب إن أخطأت أو سيسخر مني زملائي.
الخوف والانزواء أثّرا في شخصيتي وأصبحتُ ضعيفا أحس بالدّونية في نفسي ومع الآخرين، ولحسن حظي أعطاني الله عز وجل قوة باطنية بداخلي تدفعني لأخذ الأوراق والرسم عليها وكأنها تقول لي : “أفرغ ما تحس به وتحدى الضعف الذي يسيطر عليك لتتخلص منه” كنت أرسم ما لم أستطع فعله في الواقع، وهذا الأمر ساعدني على تخطي بعض ما كنت أعانيه.
ومرت السنوات، وفي أحد الأيام جلست مع والدتي نسترجع الماضي فانتهزتها فرصة وبدأت أذكّرها بما كانت تفعل بي، وسألتها إن كان الضرب والعنف هو الحل الأنجع في التربية فأجابت بكل ثقة وفخر” يا ولدي كنت أريدك أن تكون رجلا منذ صغرك، تتحمل المسؤولية وتكون ناجحا مُجدا، لهذا التجأت لذلك الأسلوب القاسي” حينها تذكرت ما يقال عن اللقلاق حين أراد تقبيل ابنه ففقأ عينه…
في نظركم، هل هذا هو الحل الأنجع في تربية الأجيال ؟ وأي تربية نريد إن كان هذا الأسلوب ينتج لنا مجتمعا خائفا منطويا يحمل من العقد النفسية الكثير ؟ وربما قد تؤدي ضربة إلى كسر في أحد الأعضاء أو عَوَر إحدى العينين…
أملي في أسَر سعيدة مليئة بالحب والاحترام، يسود فيها الحوار بدل رفع الأيادي بالضرب، وتعتمد أسلوب التشجيع بالهدية أو الخروج إلى نزهة أو غيرها مما هو محبّب لدى الأطفال، لأن العنف لا يولد إلا الشخصية العنيدة المتمردة وأحيانا الحاقدة، وما أحوجنا إلى التسامح وسَعة الصدر مع أبنائنا وأخذهم بلين الجانب، فلو أن الله عز وجل يؤاخذنا نحن الكبار على كل تصرفاتنا ما ترك على ظهرها من دابة.