أهمية القيم الإحسانية في بناء الحياة الأسرية

Cover Image for أهمية القيم الإحسانية في بناء الحياة الأسرية
نشر بتاريخ

1.تصرف إحساني

حُكي أن أحد الصالحين المغمورين في زمانه أراد أن يتزوج فذهب عند أحد جيرانه طلبا لأحد بناته فوافق الجار.
خطب الرجل البنت الصغرى، لكن العائلة واستخفافا بالرجل، لأنه صاحب مظهر الزهد وغير معروف القدر، اتفقت على تزويجه البنت الكبرى دون علمه.
وعند الدخلة تفاجأ الرجل فأصابه العمى مباشرة، لأن الوافدة كبيرة السن ولا تتوفر على الحد الأدنى من الجمال.
عاش الرجل مع المرأة ما تيسر من السنين ثم توفيت، فلما دفنت صار الرجل بصيرا.
سأله أحد مريده: كيف ياسيدي لما دخلت بهذه المرأة أصبت بالعمى ولما توفيت صرت بصيرا؟
أجابه ولي الله المغمور وغير المعروف القدر عند العامة: ياولدي لما دخلت على المرحومة اكتشفت أنها غير المطلوبة فتمثلت أني أصبت بالعمى حتى لا أؤذيها.
خذ هذا التصرف الإحساني مع جعله في سياقه، لأن الشاهد عندنا إحسان الرجل مع مظلوميته لنقف إن شاء الله تعالى على أهمية القيم الإحسانية في عمران الأسرة في سياق حركة الخصال العشر إلى أفق عمران الأرض.

2. الحياة الأسرية ليست هي العلاقة الزوجية

العلاقة بين الزوجين جزء من الحياة الأسرية، لكنها القاعدة والأساس، وأن اختزال الحديث عن الحياة الأسرية في هذه العلاقة خطأ منهجي ومنزلق سلوكي، لأنه مرتبط أصلا بسيادة منطق الحق لا منطق الواجب الذي يمكن توسيع نتائجه على كامل الأسرة أصولا وفورعا.
فتركيز البحث والحديث فقط عن العلاقة بين الزوجين تركيز لها في البعد الجنسي وتفاصيله العاطفية والنفسية وتجلياته العلائقية مهما توسع البحث والحديث، وهو حجاب عن الانتقال بها إلى مصاف البناء المتكامل الذي يؤثر في البناء المجتمعي ونظامه العمراني.
فتلبية الغريزة إنما وسيلة للقيام بمهام العمران، وهو الفرق بين الإنسان والحيوان، لذلك تأخذ هذه التلبية أهميتها وقيمتها لما تكون تصرفا إنسانيا يتعبد الإنسان به الله تعالى للقيام بواجب العبودية بمعناه الفردي والجماعي، وهو معنى “في بضع أحدكم صدقة”.
وهنا يقتضي المقام التنبيه إلى أمر عظيم وخطير؛ ألا وهو اختزال لذة الزواج في ضيق لحظة قضاء الوطر ، لأنه المدخل الكبير على انهيار الأسرة أو عدم استقرارها الحقيقي أو خضوعها المطلق للقيم البهيمية.
فسر الاستقرار دائر على أمر “إذا نظر إليها سرته”، قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: “ألا أخبرك بخير ما يكتنز المرء؟ المرأة الصالحة؛ إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته”.
فسرور النظرة أعم من لذة قضاء الوطر ، لذلك إذا كانت النظرة سارة في كل الوقت أفاد فيها ما كان من الجمال والرشاقة والكمال، والفرق بين من عينه على لحظة زمنية غاية في الضيق لا يُسر كلَّ وقته، مما يجعله في وضع القلق الخفي الذي يتحول مع مرور الزمن إلى وضع مستمر غير مفهوم العوامل في الغالب.
إن سرور النظرة يتوسع حتى يشمل كل العائلة فروعا وأصولا، حيث يصير الرجل ابنا لأسرة الزوجة وتصبح الزوجة بنتا لأسرة الرجل، وبهذا تكون الأسرة صلب القوة المجتمعية وقاعدتها الصلبة، إذ لا قوة للمجتمع من دون قوة الأسرة معنويا وماديا، فنتذكر بهذا موقف الرجل الصالح لما ادعى “العمى طيلة حياته الزوجية” لعلمه الكامل بأن النظرة لا تعود عليه وحده فقط بالسرور أو عدمه؛ بل على الشريكة وكل العائلة وكل المحيط، وحتى لا يؤذيها كل تلك المدة ويؤذي الأسرتين تنازل عن حق للقيام بواجب إحساني، وهو دين من نظر إلى الآخرة فرُتب له ما في الدنيا إحسانا شاملا.

3.أسرة العادة وأسرة العبادة

كان موقف ولي الله المغمور شأنا خاصا إحسانا منه لأمة حيث صبر واحتسب حتى إذا لقي الله يوم اللقاء المحتوم كان مرضيا كما كان في الدينا مرضيا.
فكيف يجب أن يكون موقف من حمل نفسه وحملت نفسها على الجهاد العمراني وتزوجا مختارين، وكانت له وكان لها من اختارها واختارته، وكان بينهما “الميثاق الغليظ” وأفضى بعضهما إلى بعض؟
في سياق حركة أسرة العادة تهيمن لغة الطلب: هذا حقي أطلبه كاملا أو قد أتنازل عن بعضه بمقابل.
للرجل حقوق وللمرأة حقوق في حياة أسرة العادة ابتداء، فتصبح حياة الأسرة اصطكاكا حادا أو طفيفا بين طلبات الحقوق، وقد يصل إلى حد الاحتراق حيث يضطر الجميع إلى طرف خارجي يصب من مواد التبريد ما يرقع نظام العلاقات لحظات ريثما تُصعد لغة طلبِ الحق من هذا الطرف أو ذاك مجددا ثم تصبح الحاجة إلى طرف خارجي أو عنف داخلي رمزي أو مادي، لأن لغة الطلب تفرز واقع الندية الذي تصبح فيه النفس سيدة والهوى رائدا والطبع مهيمنا؛ فتتراكم المشاعر الداخلية العميقة في النفس والشعور حتى تصبح الحياة الأسرية في وضع “البلوكاج”، الذي قد ينتقل إلى مجال العلاقة الجنسية فتتعقد الأوضاع أكثر ويصبح التعبير عنها أعقد حيث يصير الخفي فيها أعظم من الظاهر؛ فتتضخم المشاكل الظاهرية دون أن يجد لها المفسر تفسيرا بناء على العوامل والأسباب الظاهرة، فيكون الفراق أو الشقاق أو الكدر المستمر.
أما في سياق حياة أسرة الجهاد العمراني فتهيمن علاقات الواجب ونظامه: هذا الواجب علي تعظيما للميثاق الغليظ تجاه شريك أو شريكة الحياة حتى إذا مرت بعض السنوات بعد يوم الزواج، وقد لا تتجاوز السبع، استقام أداء الواجبات وانتظم فكانت معه الحقوق محصلة بالتبعية المرضية، هنا يكون الطلاق أبغض الحلال إلى الله إلا إذا صارت الحياة اتجاهين لا يلتقيان، واختيارات لا أمل في الجمع بينها، فك
ان الشارع حكيما لما لم يمنع الطلاق ولم يجعله قولا واحدا؛ بل عالج مساره النهائي بحكمة تعدد صوره التي يكون آخرها الثالث حتى لا تضيع حياة الطرفين في أمر لم يعد ممكنا.
في حياة أسرة الجهاد العمراني لا يخطر ببال أطرافها هذا حقي أطلبه، لأنه محصل تلقائيا لما يكون العمل قياما بالواجب تقربا إلى الله جهادا في سبيل الله، لذلك أخبر المصطفى خير خلق الله في أهله إحسانا نبويا: أن “فِي بِضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ “. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ يَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: ” أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي الْحَرَامِ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلالِ كَانَ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ”.
في سياق حياة أسرة الجهاد العمراني، أسرة العبادة، حتى تلبية الغريزة صدقة وأجر، وهو معيار الفرق الجوهري بين التلبية البهيمية للحقوق الخفية والظاهرة وبين القيام بالواجبات المعنوية والمادية عبادة وبناء، وهنا تكون أهمية العلم بموقع الأسرة وأهمية بنائه ضمن حركة الخصال العشر في المشروع التجديدي؛ مشروع العدل والإحسان كما قدمه الإمام المجدد عبد السلام ياسين، رحمه الله، صاحب الكتاب الخالد “تنوير المؤمنات”.

4.الحياة الأسرية في سياق حركة الخصال العشر

سلوك الأسرة كسلوك الفرد؛ إسلام ثم إيمان ثم إحسان، أي أن القيم الإحسانية تتأسس على الحقائق الإيمانية، وأن هذه الأخيرة تتأسس على الأحكام الإسلامية، أي أن واجب الأسرة المجاهدة البانية للعمران، بكل أطرافها الأساسية، التحرك للخروج من مستنقع العادة إلى مجال العبادة، ومن مقتضيات مرتبة الإسلام إلى حياة الإيمان التي منها يطل الجميع، إن شاء الله، على مقامات الإحسان ومعانيه العظمى.
خص الإمام المجدد عبد السلام ياسين، رحمه الله، المرأة من حيث هي جوهر كيان الأسرة بكتاب “تنوير المؤمنات“، والمؤمنات غير المسلمات، لأن مرتبة الإسلام لا تطلب إلا العقل حتى يحصل التكليف حيث العقل مناطه، لكن القيام بأعباء الجهاد العمراني مناطه القلب المؤمن، أي مرتبة الإيمان، والمسلم يقتحم العقبة بالانتقال من مرتبة الإسلام إلى مرتبة الإيمان باتباعه المؤمنين، لذلك تكون المؤمنة متطلعة بقلبها شوقا إلى قيم الإحسان من خلال حركتها تجاه المسلمات ليحصل انتقالهن إلى ذرى الإيمان، فيرفع الله درجتها إلى ذرى الإيمان والشوق إلى الإحسان في سرب أهل الله المجاهدين في سبيل الله.
هذه المؤمنة الساهرة على أن تقتحم المسلمات العقبة ما يكون أمر بيتها وأسرتها؟
لذلك كان الكتاب تنوير اللمؤمنات كما تنويرا للمؤمنين في قضية لا سلوك من دون كمال وجودها وقيامها؛ ألا وهي كينونة الأسرة القائمة بتطلعها لقيم الإحسان ترسيخا لحقائق الإيمان أساس قاعدة العمران، هذا التطلع له تجليات يومية؛ من أهمها غلبة الابتسامة للجميع وعلى الجميع، والبشارة والتبشير، والرحمة والرفق والحلم والعلم، والتقلل في العيش وتعليمه والتربية عليه، والبذل والعطاء بلاحدود بناء منظما، وغلبة الانشغال بهموم الآخرة والأمة والإنسانية وفق نظرية تربوية إيمانية إحسانية، وهو ما جعل الإمام المجدد، عبد السلام ياسين، رحمه الله، في سياق حركة الخصال العشر وبنائها، يحدد مكان الأسرة واسطةَ العقد في خصلة “الصحبة والجماعة” ضمن شعبها الإيمانية الإحدى عشر.
ففي زمان العادة تعيش الأسرة المسلمة وضعا غاية في الصعوبة من حيث نوع القيم التي تهيمن على حياتها اليومية، وبما أن الأسرة اللبنة الأساس في بناء المجتمع والأمة فقد حظيت في مشروع العدل والإحسان بالأهمية اللائقة بها، إذ تعتبر المحضن الأم في التربية الإيمانية الإحسانية، حيث استقرار القيم الإيمانية في الحياة اليومية رهين بسيادة المعاني الإحسانية في العلاقات الزوجية وفي البناء الأسري، وهي قيم تتزاحم اليوم وبشدة مع سيادة منطق القيم الدوابية والاستهلاكية والندية وفق نظرية المساواة الصادرة عن حضارة الغرب، مما يجعل المجتمعات مهددة في كل لحظة بأشد الانهيارات مجرد ما تتعرض إلي ضغوطات خارجية أو اجتماعية حادة.
فلما تتخلل القيم الإحسانية الحياة الأسرية وتنظم أمرها توفر الأرضية الصلبة لفعالية القيم الإيمانية في حياة الفرد والمجتمع والأمة، وهو ما يفتح باب الرقي في سلم القيم والعمران واسعا.
خصلة “الصحبة والجماعة” أم الخصال، وفي سياق بناء شعبها صعودا نجد: 
قال الإمام، عبد السلام ياسين رحمه الله، “جمعت من شعب الإيمان تحت خصلة “الصحبة والجماعة” إحدى عشرة شعبة يكون مجموعها نسيجا لأخوة في الله، ورداء يدخل في كنف رحمته القاصي والداني من الأمة. إن شاء الله. تتسلسل هذه الشعب الإيمانية التي يحافظ على حياتها تعاطف أعضاء الجماعة تحت نظر ربانية القيادة وكمالها….هذه الشعب من شعب الإيمان، وسائر شعب الإيمان البضع والسبعون، ركائز سلوكية لا يمكن لطامح في مقامات الإحسان وسلوك طريق العرفان أن يتجاوزها أو أن يتنكبها، وإلا كان كمن يبني على غير أساس. إن كان القوم في ماضي الانزواء والانطواء قعدوا أحلاساً في بيوتهم وزواياهم وتكاياهم خفيفي الحاذ لا حقوق عليهم لأهل ولا ولد ولا جار ولا لإصلاح بين العامة والجمهور، فإن جند الله القادمين على الخلافة الثانية جماعة، القادمين على ربهم فرادى في دار الكرامة، لا مناص لهم من اقتحام العقبة النفسية الأخلاقية الاجتماعية، يخالطون الن
اس لأن “المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم” كما جاء في الحديث، ويبلغون الدعوة للناس، وأبلغ الدعوة أن يكونوا نموذجاً صالحا يسعى على قدميه في المجتمع، يُعلن بالمثال والاقتناع واللزوم عن أخلاق الإيمان، وجدية المؤمنين، وصدقهم، ولين جانبهم، ودماثة أخلاقهم، وأدائهم للحقوق، وزيادتهم الإحسانَ والخدمةَ والفتوَّةَ والتَطَوُّعَ على النِّصاب الواجب شرعا. لآلِئُ أخلاقية ما أبهاها وأقواها إن انسلكت في سلك حب المؤمنين بعضهم بعضا في الله!
” .
لننظر إلى ما يتعلق بالأسرة ضمن هذه الشعب؛ فهي بعد الأخذ من معين الصحبة عبر الثلاثة الأولى منها تصير لما تدخل عبر قيم الشريعة من خلال الخمسة التالية منها يُتوج السلوك عطاء في الدنيا عاما لكل الخلق عبر الثلاثة الأخيرة (إكرام الجار والضيف – رعاية حقوق المسلمين-البر وحسن الخلق).
وإذا رجعنا إلى معنى البر كما عرضه الإمام في كتاب الإحسان، من حيث هو خصلة من الخصال العشر، إذ نقله من المعنى الفردي إلى المعنى الجماعي وجعله “نظاما” متكاملا يعمر العلاقات الإنسانية بين الأفراد وبين الشعوب وبين الدول، أدركنا أي موقع تحتل الأسرة في حركة الخصال العشر، وأدركنا معه اي موقع تحتله المرأة في سلم العمران الأخوي، فندرك مع كل هذا أن الدعوة، بمعناها التجديدي كما عرضه علم المنهاج النبوي، صادرة عن الأسرة التي هيمنت عليها قيم الإحسان ومعانيه العظمى لما تحتل فيها المرأة مكانها الطبيعي في البناء، أي إنما الدعوة إلى الله تعالى إرجاع الأسرة إلى فطرتها الإيمانية الإحسانية وتحريك هذه المعاني الفطرية الجامعة لصلة الرحم الترابي لتصبح هي جوهر صلة الرحم الإنساني في نظام عام؛ نظام الشورى والعدل والإحسان، ولهذا كانت جميع الشعب الأخرى إنما هي تفصيل وبناء لهذه الشعب المندرجة ضمن خصلة “الصحبة والجماعة“، فنخلص إلى الصرح العظيم الذي يؤكد أن لا بناء متكامل دون تحقيق كمال المرأة التي بها تكون السكينة ومعها تحصل المودة حيث هي مصدر الطاقة الكامنة في جوهر حركة الأمة وخدمة الإنسانية.
إن هذا الصرح ملخص مركز لكتاب “تنوير المؤمنات” للإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله.