ما أن يقترب القادم نحو رحاب أقسام المركز التربوي الجهوي بمراكش بداية التسعينيات حتى يجد صخبا ولجاجا وحجاجا وأصواتا مرتفعة بصدى يشق هدوء ساحة المركز من قبل طلبة أساتذة آتين من كليات مختلفة، جمعهم القدر ليطرحوا تصوراتهم ورؤاهم المتنوعة في كل شيء… إذ يكفي أن ينبس أحدهم بموضوع عام حتى تجد الكل قد أدلى بدلوه تفصيلا وتدقيقا ونقدا وترجيحا وتجريحا في بعض الأحيان… وإنني أتذكر أستاذا مؤطرا في فلسفة التربية وقد أُجهد بكثرة بحثه عن المشترك والناظم الذي قد يجمع هؤلاء الطلبة الأساتذة المُرهِقين، لاسيما وأن جلهم ظن أنه قد وصل إلى الذروة في الفهم والإدراك والاستيعاب ورسوخ القدم في العلم والمعرفة، أو ارتقى الأمد البعيد في نهاية الملكة… وأنى لهم ذلك، وهم قد درسوا أمام شوامخ الجبال العلمية في مراكش أمثال الفقيه (البشير المحمودي) والأصولي البارع سيدي (الحسين ألواح) وغيرهما… ليكون هؤلاء الأعلام مرايا عاكسة لعجز الأنفة الخادعة للقادمين نحو المركز التربوي، ومحاضن علمية راسخة تبين لهم قواعد البحث والاستنباط واستنطاق النصوص والتعمق في فهم جذور التصورات الفكرية العقدية، كما أكد على ذلك الفقيه الدراكة سيدي البشير المحمودي حفظه الله.
لكن الذي كان يهز أعطاف هؤلاء حقا ويجلسهم نحو الاستيعاب والنهل من معين العلم العميق والدراية التامة للمناهج وإدراك لب التصورات، إنما هو رجل تشد له الأعين لمشيته المتئدة، وصوته الوقور الهادر القوي، وألمعيته الظاهرة ونظرته الثاقبة للقسم كله… مع كلل في البصر وإن لم يكن شديدا، لأنه في تلك اللحظات كان الأستاذ يأتي إلى المركز عبر سيارته الشخصية…
قلت: ما أن يدلف أحد من الطلبة الأساتذة نحو باب القسم حتى يجد شغب الطلاب قد انطفأ، وجلسوا للاستماع إلى محاضرته الهادئة المتسمة باسترسال لطيف، ليدخل سيدي أحمد الملاخ لجج التصورات ونقدها، لاسيما تلك التي تشرح المراحل العمرية للإنسان، أو ضبط سيكولوجية المراهق، أو التي وضعت قالبا محددا للعملية التربوية… ولطالما استغربت من طلبة أيقنوا بخلافهم الإيديولوجي مع هذا المنظر التربوي، ولم يستطيعوا إعلان خلافهم معه، وإن فسح المجال لهم للتعقيب أو الإضافة أو النقد… لأنهم كانوا يدركون أنهم أمام رجل إنْ تحدث عن تصور فلسفي ما إنما كان يضعه على بساط الفهم والمعرفة الدقيقة العميقة له دون شخصنة أو ميول وجداني يزيحه عن جادة التعقل والصواب.
والذي كان يشدنا نحوه كذلك إنما هو انبساطه ورحمته وحبه لطلابه دون تفريق بين أحد منهم… بل إننا كنا نشعر أننا أمام أب بسط كساء لطفه على الكل، مما يجعل أكثر الطلاب قريبين منه وكاشفين بعضا من مشاكلهم لديه… ولطالما فرحت مع صديقي (الوفيقي) حين استدعانا لتوظيب مكتبته وترتيبها معه في بيته، فانتهزنا الفرصة للتعرف على سيدي الملاخ عن قرب… فوجدنا ما كنا نتوقعه حقيقة… مدخل البيت وبهوه وكثير من الغرف إنما هي مؤثثة بالكتب الوافرة والمصادر النفيسة سواء أكانت شرعية أو تربوية أو فلسفية… كل ذلك كان يبعث في قلوبنا دهشا كبيرا وفرحة داخلية، خاصة أن الطلبة الأساتذة في تلك اللحظات إنما كانوا أحوج الناس لمن يدلهم على معين الاستزادة من مشكاة العلم والمعرفة… وإنني أتذكر يوما وقد استجمعت شوارد بحث متعلق بنظرية السلوك عند الإمام الشاطبي، وحين شرعت في التحرير أرشدني إلى المنهج الممكن اتباعه، وكأن سيدي الملاخ هو المشرف حقيقة على ذلك الجهد العلمي، وحين أزف البحث من نهايته تناوله الرجل بتدقيق ونقد وفرح به… إنها علاقة الأستاذ العارف العلامة بخبايا النفس الإنسانية لطلابه.
ولن أنسى تجسيده رحمه الله لمقام الرضى حين همس في أذني مرة أن نعمة العين خرجت من جوده سبحانه، وإذا أراد أن ينتزعها، فالأمر موكول له عزوجل، ولا اعتراض للموهوب بما جاد به الواهب… فلاحظت وكأن الرجل سابح في مقامات لا أعرفها ومرتق منازل للسائرين جهلتها، لاسيما أنه قد أظهر لي مكان خلوته بالذكر، وهو بيت صغير بسطح (فيلته) مكان سكناه رحمه الله، ولطالما حدد لنا رحمه الله المعنى الحقيقي للزهد، إذ أكد دائما أن الزاهد إنما هو الذي تستوي عنده الأفضال والنعم مع الكروب والنقم، والبيت المتواضع مع الواسع الأرجاء…
وكم أذهلني حرصه رحمه الله على أبنائه لاسيما بناته الكريمات اللواتي كن يدرسن بكلية الطب بالبيضاء إذ كان دائم الاتصال معنا حول بيت لائق يكترينه ويستقررن فيه، وما في ذلك من مسؤولية الاحتضان والرأفة والحب الذي كان رحمه الله يكنه لأبناء أسرته الفضلاء.
ولفرط حبنا له اقترح بعض الطلبة الأساتذة في حينها أن نستقدمه لغذاء يوم الاثنين، فتبسم رحمه الله وقال لنا بلهجة فيها ذكاء ولطافة: “إنني إن أتيت عندكم وتناولت معكم طعام الغذاء يوم الإثنين، فإنه سيغير اسمي من (أحمد) إلى (احميدة)”، قالها وهو يفتر عن تبسم راق، فتعاتبنا على هذه الدعوة التي ما كان لها أن نوجهها لأولياء عارفين دائمي الصيام يوم الإثنين.
ألا رحمك الله أيها الجبل الراسي بمراكش، وإن حيينا سنوات فلن ننساك، لأن الابن لن ينسى أباه البتة، وما نرجوه من الله تعالى إنما هو انتظامك في علق الأخيار والأطهار والسابقين المقربين في جنات النعيم، فضلا عن انغراسك في صفحات الخلود العلمي التربوي هنا وفي الأصقاع كلها… آمين والحمد لله رب العالمين.