“…جميلة تلك الوعود المنثورة على الرؤوس بسخاء، لكن ما أبشع الخيبة حين تستفيق الشبيبة بعد حين من الأماني المعسولة على مرارة الواقع التعس. فبعد الاستعراضات والاحتفالات سيرحل الشعر المحلق في الأجواء ليحل محله النثر المثقل بالبطالة والبؤس…”. كانت هذه إحدى فقرات مقدمة “مذكرة إلى من يهمه الأمر”، الرسالة التي بعث بها مرشد جماعة العدل والإحسان الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله إلى الملك محمد السادس.
فعلا رحل الشعر المحلق، وبقي النثر المثقل بالفقر والبطالة والحكرة والحرمان وانسداد الأفق.
بعد أن ضجت الشوارع بشكوى المواطنين ومسيراتهم، وبلغت القلوب الحناجر غضبا وسخطا… تساءل الملك محمد السادس مع المقهورين: “أين الثروة؟ وهل استفاد منها جميع المغاربة أم أنها همت بعض الفئات فقط؟” و“هل خياراتنا صائبة؟”.
أسئلة جوهرية من أعلى السلطة في البلاد، لكنها أسئلة عابرة لا تبحث عن جواب، هي للاستئناس وليس لمعالجة خلل وأزمة عميقة استغرقت عقودا من الزمن. ارتفعت الأسئلة التي طرحها الملك منذ ما يقرب من خمس سنوات، وبقي المواطنون هم وحدهم من يدفع ثمن سياسة استبدادية جاثمة على الصدور.
في 1973 وهو تاريخ الإعلان عن مغربة ما تبقى من الأراضي التي كانت تحت يد “الاستعمار الخاص” والبالغة مساحتها 728000 هكتار، وهي من أجود الأراضي الفلاحية، تم تسليم منها 300000 هكتار إلى شركتي صوديا وصوجيكا، أما الباقي لا أثر له في السجلات ولا أسماء ظاهرة لمن استحوذ عليها. أين الثروة؟
في سنة 2005 ستقوم الدولة بتصفية هاتين الشركتين، وستتكرر عملية ابتلاع أكبر المساحات من جديد، ستمنح امتيازات طويلة الأمد للضيعات التي كانت تحت مسؤولياتها، وسيتم توزيع 100000 هكتار وتختفي 200000 هكتار من أصل 300000 هكتار.
وبعد عملية التوزيع الظالمة، تأتي عملية الإعفاء من الضرائب الكلي لمداخيل الفلاحة وفق قرار ملكي أصدره الحسن الثاني، في الوقت الذي زاد فيه العبئ الضريبي على أغلب المواطنين، وهذا الإعفاء لم يكن يهم سوى كبار الملاكين.
وتستمر سياسة الإعفاء من الضرائب في حق “صفوة” القوم المُنعّمين، بسن قوانين استثنائية لصالحهم، وتحت شعارات مختلفة ويافطة تحفيز القطاع على الادخار والاستثمار وخلق مناصب الشغل. يقول نجيب أقصبي في كتاب “الاقتصاد والسياسي..” أنه: “خلال 2015 تسبب 300 إجراء من هذه الإجراءات في ضياع 32 مليار درهم من عائدات الدولة”.
إنه اقتصاد الريع الذي ابتلع خيرات البلاد ومس قطاعات اقتصادية رئيسية؛ الصيد في أعالي البحار، مقالع الرمال، منابع المياه المعدنية، بيع أو تفويض دون شفافية وغياب المناقصة مع احتكار أنشطة اقتصادية مهمة؛ على سبيل المثال حالة كوسومر فرع الهولدينغ “أونا” التي حصلت في 2005 على كافة مصانع السكر العمومية، بموجب تفاهم مباشر لتصبح المحتكرة الوحيدة كشركة خاصة لمنتوجات مدعومة من طرف صندوق المقاصة ومحمية من المنافسة الخارجية.
لم يكن من نتائج لإمساك السلطة والتجارة في يد واحدة إلا خرابا مزلزلا للبلاد، وفي مجالات متعددة، حيث الفوارق الاجتماعية الفاضحة، ومظاهر الحرمان والمسغبة والقهر.
نفس السياسة، نفس النتائج، استمرار واستماتة على مواصلة الطريق وإن تغيرت الأشكال لكن جوهر السياسة ثابت لا يقبل التبديل ولا التغيير.
ففي أول تقرير لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية البشرية تم تصنيف المغرب في المرتبة 108 من ضمن 160 بلد وراء كل من الجرائر وتونس والأردن، وأشار ذات التقرير أن الساكنة التي تعيش تحت الفقر في الفترة 1980 و1988 كانت تشكل 37 في المائة من ساكنة المغرب، وفي الوسط القروي 47 في المائة.
وإذا انتقلنا إلى آخر تقرير للأمم المتحدة لمؤشر التنمية البشرية والمتعلق بسنة 2018 وجدنا المغرب يحتل المركز 123 من أصل 189. وهذا التقرير يقوم على معايير ثلاثة؛ الصحة، التعليم، ومستوى الدخل. وللتذكير أن هذا التصنيف صار ملازما للمغرب خلال السنوات الأخيرة 2016 و2017 و2018.
ماذا تغير بين عهدين؟
في عهد الملك الراحل الحسن الثاني كان هناك ما يعرف بالمخططات الوطنية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وكانت حصيلة هذه المخططات وهذه الأوراش الملكية أن اضطر الملك سنة 1995 للإعلان من قبة البرلمان في خطاب تاريخي أن المغرب يعيش مرحلة السكتة القلبية.
بعد أن تولى العرش محمد السادس سيتبنى المخططات القطاعية والجزئية عوض الوطنية، وستحمل أسماء جذابة:
2003: المخطط الأزرق للسياحة.
2005: المبادرة الوطنية للتنمية البشرية.
2006: “مقاولتي” لخلق المقاولة.
2007: مخطط رؤيا 2020 للتجارة والتوزيع.
2008: المغرب الأخضر للفلاحة.
2009: المغرب للتصدير أكثر “للتجارة الخارجية”.
2010: رؤيا 2020 للسياحة.
2013: المغرب الرقمي.
…..الخ.
لم تكن حصيلة هذه المشاريع إلا الفشل الذين أنهك المواطنين، أموال باهظة تنفق على مكاتب الدراسات الأجنبية، وملايير الدراهم تصرف على تنزيل هذه المشاريع المتعثرة. في نهاية المطاف يعلن الملك محمد السادس أن “المغرب يعيش مفارقات من الصعب فهمها” و“برامج التنمية البشرية والترابية لا تشرفنا وتبقى دون طموحنا”. ثم بعد كل هذا يتم الإعلان عن المرحلة التالية من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية 2019 و2023.
من صاحب هذه الأوراش الكبرى؟ من صاحب هذه البرامج؟ من يعطي انطلاقتها؟
ما هي مسؤولية النظام السياسي في التنمية السيئة للبلاد؟
لماذا هذا الإصرار الغريب لاعتماد نفس الخيارات مع بعض الروتوشات فقط، لكن الجوهر هو هو؟
لماذا لم تحقق كل هذه المخططات وهذه الاستراتيجيات الأهداف المتوخاة والمعلن عنها؟
المشكل العميق يكمن في احتكار سلطة القرار وغياب المساءلة والمحاسبة أمام أي هيئة أو مؤسسة.
يقول الدكتور نجيب أقصبي “ما يزال الملك هو من يقرر استراتيجيات البلاد، وهو الذي يتحكم في المؤسسات العمومية النافذة في الاقتصاد المغربي، وهو من يتحكم في أهم هيئات المراقبة وتقنين المشهد المؤسساتي. بالملموس، هو الذي يتخذ التدابير التي من شأنها تعميق البطالة أو التخفيف منها، وتدهور القدرة الشرائية للساكنة أو تحسينها، وتخفيض من مؤشر التنمية أو رفعه، وتدهور القدرة التنافسية للمقاولات أو تطويرها…” الاقتصاد السياسي والسياسات الاقتصادية، ص 111.
التنمية حرية، تنمية قدرات الانسان والمجتمع يستحيل أن تأتي قسرا وفي ظل مناخ استبدادي، أو بناء على قرارات فوقية سلطوية، والعدل الاجتماعي سيبقى بدون عنوان في ظل نظام الحاكم فيه هو الكلمة الفصل، والحق الذي لا يأتيه الباطل. “ما أريكم الا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد”.