أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ

Cover Image for أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ
نشر بتاريخ

أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ[العنكبوت: 2] آية عظيمة يشد بها مؤمنو غزة عضدهم وتثبتهم على الحق الذي هم عليه، يستشهدون ذودًا عن شرف الأمة وإعلاءً لكلمة المولى عز وجل ودفاعًا عن الأرض والعرض، يموتون بأقدارهم ويلقون الله تعالى بآجالهم، يكفيهم فخرًا أحاديث رسولنا الكريم فيهم بأنهم الطائفة المنصورة وأن أرضهم أرض رباط، يكفيهم شرفًا أن العالم بأسره بتقنيته ودبابته ووحشيته لم يهز من عزيمتهم قيد أنملة، ولا أن يزحزح من ثباتهم شبرًا واحدًا، وكأنهم الطود العظيم، يلقون ربهم بإذنه تعالى وهو راضٍ عنهم، بعد أن عاشوا في ساحات الحق مقبلين غير مدبرين.

قد لا يفهم الكثير منا صبر الله تعالى على ما يلاقيه إخواننا في غزة، وقد يكون في حديث سيدنا خباب بن الأرت جوابًا لمن كان له قلب يعقل به، فبداية الإسلام لم تكن سهلة هينة، إنما عانى فيها رسولنا الكريم أشد المعاناة، فأعطى المثال في الصبر لأصحابه الذين عذبوا بدورهم عذابًا شديدًا حتى أنهكت قواهم، وهذا خباب يجيء إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بعد أن اشتد عليه وعلى أصحابه الأذى، يقول:

شكونا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “كان الرجل فيمن قبلكم، يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون” 1

وقد تحقق الحديث حتى صار الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، وسينتصر أهل غزة لا محالة يقينًا لا شكا، بل ستعود للأمة هيبتها التي استبيحت، وإشراقتها التي غابت بإذن الله تعالى، وبموعود حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي قال: “ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر” 2.

فصبرًا أهل غزة، فربنا عز وجل يبشر أولياءه فيقول سبحانه وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ ۖ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء: 104].

وصبرًا أهل غزة فإن العاقبة للمتقين

جرائم الصهيوني المترنح المتوجع البائس لا تنتهي، نراها صباح مساء بأعيننا وأعين العالم مفضوحة على الشاشات، لتكون شاهدًا على وحشيتهم واستكبار الشيطان وأتباعه على الأرض، وأيضا لتكون شاهدًا علينا أمام الله تعالى، وشاهدًا على تقصيرنا اتجاه إخواننا الذين أمرنا أن نكون وإياهم كالجسد الواحد.

لا تفتأ آلة التوحش والهمجية في غزة الحبيبة تغتال الصغير قبل الكبير، والمسن قبل الشاب، والسقيم قبل المعافى، تغتال المرأة قبل الرجل، تغتال الحبلى وجنينها، تغتال كل ناقل للحقيقة، كل صحفي شريف شاهد على التجويع والترويع، يحرجهم أمام العالم، ويحرج كل متواطئ معهم ممن آثر الحياة الدنيا وزينتها على ما عند الله تعالى.

 فحْق لأهلنا في غزة أن يحاسبونا، وحق لنا أن نخشى أولئك الذين خذلناهم طويلاً حتى أصبحوا خصومنا أمام الله تعالى، ولنتذكر قوله سبحانه: وقفوهم إنهم مسؤولون.

سنقف غدًا مع القتلة في نفس الصف لأننا اليوم نقف جنبهم بصمتنا وبغطائنا الذي نمنحهم إياه، وبتسويتنا بين الجلاد والضحية.

 فلنعد للسؤال جوابه، ولنقرأ تاريخنا… حين تخلف ثلاثة من  الصحابة عن غزوة تبوك، ثلاثة ليسوا منافقين ولا خونة لكنهم تخلفوا في لحظة كان يجب أن يكونوا فيها في الصف، جاء العقاب قاسيًا لهم إذ ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم حتى ظنوا ألا ملجأ من الله إلا إليه، لكنهم تابوا حتى تاب الله عليهم، فإن كان هذا حال ثلاثة فكيف سيكون حال الأمة بأكملها، أمة تخلفت عن نصرة الحق؟

ولنعد للسؤال جوابه، حين نسأل: لماذا لم تغضب نصرة لإخوانك؟ فمن الحجر في غزة خرج السلاح، ومن الحصار خرجت الأنفاق، ومن القهر والقمع، خرجت تلك القلوب المؤمنة الساعية للحرية، فأي عذر لنا نبسطه بين يدي بارئنا عز وجل عله يشفع لنا يومئذ، فلا عذر لنا إن لم نغضب اليوم.

ولنعد للسؤال جوابًا، فشعوب العالم حرّكتها الإنسانية، لنجدهم يدافعون بكل ما استطاعوا عن الحق بالتنديد والخروج المكثف للميادين واستغلال كل فرصة لإيصال صوت المستضعفين، لم يحركهم دين أو ملة بل حركتهم إنسانيتهم وتضامنهم مع الحق، رأوا في فلسطين قضية أخلاقية لا ملفًا سياسيًا، دافعوا عن شعب يذبح دون أن يسألوا عن أيديولوجيته، وفي الوقت نفسه نجد المسلمين يرقصون على جراح إخوتهم في مهرجانات صاخبة، أصواتهم في الحق خافتة، ليصدق فينا قول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: “…بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل…” 3.

فلنعد للسؤال جوابه، فغزة بل فلسطين كلها ليست إلا البداية في مخطط لعين يسعى للقضاء على كل حق وعدالة، وطهر وإنسانية، فالقادم أسوأ، ومن كان يظن أن الطوفان لن يجرفه فليراجع نفسه، فالعدو يشتغل بطرق ماكرة كعادته لإخضاع المسلمين بل كل حر كريم، إما باستباحة الأراضي وتدميرها بمساندة ومباركة الغرب، وإما بالاختراق الناعم بواسطة بقاياه في البلدان وهذا أيضًا بمباركة من باعوا الذمم والدين والوطن، أساليبهم ليست وليدة اليوم بل قديمة قدم الزمان، فلطالما حاولوا إطفاء نور الله تعالى لكن يأبى الله إلا أن يتم نوره.

 فهل يا ترى يستقيم حالنا بعد كل هذا أم ننتظر إلى أن يستبدلنا الله تعالى بمن يستحقون شرف الاستخلاف في الأرض؟

ما يحدث اليوم لأهل غزة هو امتحان للأمة، وأمة محمد ﷺ أبدًا لا تموت، فلا تتوقف عن قول الحق ولا تتوقف عن اتباع الحق ولا تخش غير ربنا الحق، لا تكن عاديا في زمن غير عادي فالتاريخ لا يرحم، ولا تقل ما عساي أفعل، ولا ترى النصر بعيدا، فنحن مسؤولون عن السعي لا عن النتائج، عن المسير لا عن الوصول.


[1] رواه البخاري.
[2] رواه أحمد، والطبراني.
[3] رواه أحمد وأبو داود واللفظ له، وقال الهيثمي في المجمع إسناد أحمد جيد.