وأنا أتأمل في حدث الهجرة أثارني توقيتها الزمني لهاته السنة بشكل غريب؛ فقد وافقت مبتدأ عطلة الصيف أما منتهاها فنستقبل فيه ذكرى المولد النبوي الشريف. وهو لعمري موعد بين نورين؛ ملمح لطيف وإشارة ربانية أن هاجِر إلى مولاك فتتحقق لك الولادة. فكيف نسقط هذا الحدث العظيم على سلوكنا إلى ربنا الحبيب.
أوصى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا ليلة هجرته أن يبيت سيدنا علي في فراشه بعدما أجمع أهل قريش أن يقضوا على النبوة في مهدها. كانت له ودائع أراد ردها إليهم، فرغم كل ما لحقه منهم من إيذاء إلا أنه ظل الوفي الأمين الذي لا يغدر. وكذلك يكون المحب موضع ثقة لا تنتهك عنده المحارم ولا تضيع عنده الأمانات، موثوق فيه لا يكذب ولا يدعو إلى كذب، يصدق القول ويصدق في الطلب، فإن للصدق براهين تثبتها شواهد الأيام.
خرج الحبيب المصطفى صلوات ربي وسلامه ليلا، وكذلك تكون هجرتك إلى الله؛ تسري بروحك تتقلب مع الساجدين الراكعين المتبتلين تلتمس الدعاء في سويعات الدجى، تسير سيرك القلبي. ثم إنه لم يسر وحده فقد كان قرة عينه سيدنا أبو بكر يحيط به من كل جانب، يقدم نفسه له ذرعا تقيه شر كل ذي شر…
ويطيب المقام في جبل مهيب، أول ما وصلا إليه بدأت بوادر الإيثار والفداء تشب في قلب الصديق؛ إذ تفحص المكان وتجرع الآلام وجند ذات النطاقين وكذلك ابنه عبد الله ليخدم الدعوة بنفسه وماله وولده، فلم يسبقه لهذا الأمر وفيه أحد.
سيدتنا أسماء تشق موكب خدام الدعوة وتنال شرف السبق رغم ثقل الحمل، وما أثقل أحمال النساء التي تنوء بهن أكتافهن من مسؤوليات داخل أسرهن بين زوج وولد وضيف وجار ووالدين أوصى ببرهمها الدين الحنيف وقرن رضاهما برضا الله عز وجل!
داخل الغار خلوة عظيمة فاحت أنوارها على قلوب المهاجرين والأنصار وباقي العالمين. قلب لقلب؛ معبر من الأسرار والأنوار فاز بها الصديق المحب، انجلت الأحزان والمخاوف وتملأ القلب يقينا لا يهزم وانطلقا بنور من الله. وأنت يا محب إن لم يقدر لك الله صحبة الشخص الجليل واقعا، فلا تغفل أن تصحبه معتكفا في ركن قلبك؛ ترسل إليه الصلاة تلو الصلاة حتى تكتب عنده محبا ومحبوبا ويستدعيك يوم يشتد الزحام وينادي على رؤوس الأشهاد قربوا مني فلانا فقد كان يكثر الصلاة علي. تأكد أنه يسمع سرك قبل جهرك فإن للأرواح لحديثا أحلى من الشهد، فكيف به إن كان مع سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا.
تعكتف ما شاء لك الله أن تعكتف رفقة من رق لهم قلبك وسلمتهم مواثيق الحب ثم تنطلق في السير رفقتهم لتطل على مدينة قلبك المنورة بنور الله، ويطلع بدرك مزينا سماء المحبين، وتبدأ ولادة قلبك وعقيقة الشهود تعلنها مواكب السائرين؛ فتفرح ويفرح الجميع. يطيب لك بعدها المقام وقد اجتزت الصحاري واخترقت البراري واقتحمت المفاوز وصقلت سيفك وقدمت برهان صدقك مع الصادقين. تخرج على الناس بقلب دال على الله؛ يمشي بينهم بنوره ويعلمهم كلام ربهم. يتقاسم معهم أرزاق الأرض والسماء.
بين هجرة قلبية وولادة؛ تنطلق أفراح السماء ويفرح المؤمنون بنصر الله وينادى في الملأ الأعلى إني أحب فلانا فيحبه جبريل عليه السلام ويحبه الكون كله، ويطربون لما يعتريه من أشواق وأذواق، ويترصدون مجالسه مع أحباب الله والخلق أجمعين؛ يوثقون كلامه عن الله ويفرحون بذكر الله له، ويشهدون على سيره في الأرض داعيا إلى الله وقائما بأمر الله.