تُواجَه المرأة المسلمة بنمطين من الخطاب يَجُرّانِها، كلاهما، إلى الاستلاب. خطاب يتردى بها إلى مهاوي الجهل والاحتقار والدونية، وهو خطاب تراكم عبر عصور الانحطاط ويحتوي خليطا من أعراف وتقاليد بالية وفقه منحبس؛ وقد استطاع مع ذلك أن ينحت لنفسه مقاما في شخصية المسلمة. ثم خطاب آخر استهوى بمجامعه قلبها وببريقه وغلبته عقلها. هذا الداء هو التغريب المتولد عن الاستعمار الغربي لمجتمعات المسلمين الذي خَلّف وراءه أتباعا وخداما خُلَّصا لدعواه تحرير المرأة، وفق نمط صاغوه ومنهج غرسوه في النفوس والعقول. أما حقيقة غايتهم وصلب دعواهم فهو سلخ المرأة المسلمة عن دينها وطمس فطرتها واختزال شخصيتها في صورة للعرض وجسد للمتعة.
أما خطاب الإسلام الأصيل فهو توّاق للخروج بالمرأة من عزلتها والنهوض بها من كبوة أُقحمت قسرا فيها، إلى مراقي العزة والكرامة والمشاركة الفاعلة والجادة في بناء مصير مشترك في الدنيا والآخرة. ولن يتحقق هذا المطلب العزيز دون تنوير عقلها وتحرير إرادتها وإيقاظ همتها. ويعتبر الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين أن قضية المرأة يجب أن تحتل صدارة الاهتمام لدى الحركة الإسلامية، يقول: “ظُلامات المرأة المسلمة يجب أن يفحصها الإسلاميون جميعا مع مآخذ الإسلاميين على إصابات التمييع والتغريب، لا منفصلة عنها. يجب أن يَرسُوَ منهج الحل العملي لِما وقع على المرأة من غبن التقاليد، وما يقع عليها من مسخ التغريب والتعصير، هذا المسخ ما تمكّن إلا لمكان الغبن” [1].
إن وضع المرأة المسلمة متشابك الأطراف ومتعدد الحيثيات يتشاكس فيه البؤسُ الاجتماعي مع انتشار الرذيلة، وتفككُ الأسرة وشيوع الأمية مع الجهل بالدين. كما يقترن فيه التهميش السياسي مع الأزمة الاقتصادية المعاشية. يضاف إلى كل ذلك التغريب الآخذ في الذيوع في الأوساط الاجتماعية وفق خطط ماكرة محبوكة بدقة ومتغلغلة في أهم قنوات التنشئة الاجتماعية: التعليم والإعلام. هذا الوضع البائس يتطلب معالجة شاملة تراعي كل هذه الجوانب وتستحضر جميع تلك الحيثيات بغية الوصول إلى حلول، جذرية وليس مجرد توظيف مسكنات وهمية تضلل المرأة عن قضيتها وتعيق إرادة التحرر الفعلية لديها. يقول الأستاذ المرشد ياسين: “الحديث عن تحرير المرأة وإنصافها، وعن تاريخ بلائها دون ربط ذلك بالسياق التاريخي السياسي والاقتصادي والفقهي والاجتماعي فصل اعتباطي لما لا ينفصل” [2]. لأجل ذلك يرصد الأستاذ، عبر استقراء تاريخ الأمة الإسلامية، أسباب انحطاط المرأة المسلمة، والتي عَزاها إلى الانحطاط العام للمجتمع الذي كان نتيجة حتمية لانحطاط الحكم حين انتقضت عرا الدين. يضاف إليه انحباس الفقه الإسلامي وشيوع التقليد وسَدُّ باب الاجتهاد، مما حال دون مواكبة العقل الفقهي لحركية المجتمع. وضرب مثالا لذلك من التاريخ الإسلامي من خلال ظاهرة الرق. فإذا كان المسلمون الأوائل سارعوا بالاستجابة لأمر الله تعالى بتحرير الناس من ذل العبودية للبشر، استجابة قلبية وفعلية، فقد تحول الأمر في عصور الانحطاط إلى رمز للتفاضل بامتلاك الجواري والقيان والعبيد. وليس أقل ضررا من ذلك تكالب ملوك العض والجبر بعد ذلك على الأمة بتمزيقها وتسهيل دخول المستعمر الكافر ليستوطنها ويهزم أهلها هزيمة حضارية نكراء.
ويتتبع الأستاذ المرشد تغلغل الاستعمار ومخلفاته النفسية والاجتماعية والسياسية وآثارها على المرأة المسلمة فيقول: “ما فعله فينا الاستعمار من تخريب وقتل الأنفس ونهب الثروات أمر هيّنٌ وإصابة في الحواشي. لكن النكاية العظمى والمكر الماكر والداهية القاصمة هي إصابة الأجيال التي فتحت أعينها على النموذج المتفوق، ودرّبتها المدارس وعلّمتها الكتب وتمثلت أمامها الحضارة الغازية في النساء الكاسيات العاريات والمراقص والسينمات وتمثلها كثقافة واردة، وابتلعتها وشوّهت فيها الفطرة ومحت العقيدة ودمرت الشخصية” [3].
وعموما فإن كتاب “تنوير المؤمنات” يتطرق لقضايا المرأة المسلمة بنظرة شمولية تعم وضعها المادي القانوني والاقتصادي والسياسي، ووضعها التربوي الإيماني. ويسعى إلى الربط بين إصلاح الوضع الدنيوي للمرأة وتسديد وضعها التربوي الإيماني. أي أنه يَقْرِن بين هدفين رئيسين يجب السعي الجاد لتحقيقهما: إنصاف المرأة في حقوقها وقضاياها، وتنوير قلبها وعقلها بنور الإيمان وبركة العلم النافع.
ويتحدد الغرض الرئيس من هذا البحث في التعريف بكتاب “تنوير المؤمنات” الذي خصصه الإمام “عبد السلام ياسين” لمعالجة قضايا المرأة المسلمة وفق رؤية منهاجية شمولية تناولت معظم جوانب الموضوع من زاوية شرعية وعلمية وتاريخية واستشرافية لمستقبل أفضل لوضعية المرأة في المشروع الإسلامي. وقد ركزت في هذا البحث على حصر عدد من قضايا المرأة المسلمة التي تعتبر مثار جدل فكري وسياسي في الواقع المعاصر، وتوضيح زوايا معالجة الإمام لها في الكتاب. كما حرصت في هذا البحث على الإحاطة والتركيز دون إطناب ولا إخلال.
[1] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، مطبوعات الأفق، الطبعة الأولى، 1996، الجزء 1، ص 54.
[2] المرجع نفسه، ص 26.
[3] المرجع نفسه، ص 37.
من كتاب “قراءات في الفكر المنهاجي”، للدكتور رشدي بويبري، الطبعة الأولى، 2021، صص 72 – 77.