إضاءات حول بعض قضايا المؤمنات (2).. المساواة

Cover Image for إضاءات حول بعض قضايا المؤمنات (2).. المساواة
نشر بتاريخ

قضية المساواة

هي أقدم قضية تصدرت الملفات المطلبية للحركة الداعية لتحرير المرأة، سواء في بلاد الغرب – حيث ولدت تلك الحركة – أو في بلاد المسلمين حيث تمت محاكاتها. وقد استهلكت هذه القضية الكثير من الجهود، حتى إنه ليمكن اعتبارها أم القضايا التي تناسلت عبرها بقية المطالب. كما أنها كذلك القضية التي تصدرت جلسات الكثير من المؤتمرات الدولية ودونت في محاضرها نقاشات ساخنة. وخصصت لهذا الغرض ميزانيات ضخمة ورصدت لأجل تحقيقها الملايير من الدولارات في شكل معونات لبرامج تنموية وتوعوية. وقد انطلق دعاة التحرير في الغرب عموما من الواقع التاريخي للمرأة في المجتمع الغربي، حيث تعرضت هذه الأخيرة لصنوف شتى من الاضطهاد والعسف جرّاء الواقع الاجتماعي المرتهن بالواقع الثقافي والديني في هذه المجتمعات، والمنحدر أساسا من الإرث الثقافي الروماني ومن النصوص الدينية (اليهودية والنصرانية) المحرفة. أما في العالم الإسلامي فقد ظهرت هذه الدعوة في بداية القرن العشرين أساسا في استنساخ للتجربة الغربية، لأجل ذلك صب دعاة التحرير جامّ غضبهم على أحكام الإسلام الخاصة بالمرأة والأسرة، معتبرين أنها المصدر الجوهري لهذا الوضع البائس.

ويُقِرّ الإمام “عبد السلام ياسين” بتردّي الوضع العام للمرأة المسلمة، حيث أن “المرأة المسلمة كانت مظلومة ولا تزال، هي زميلة الرجل المسلم في ما تعانيه أمس وهي سجينة أمية” [1]. بل يعترف أن كثيرا من حجج دعاة تحرير المرأة، وفق النمط الغربي، هي حجج لها شواهد حقيقية من الواقع الاجتماعي والتاريخي في العالم الإسلامي. كما يعدد الإمام أشكال معاناة المرأة المسلمة في صورها الحديثة فيقول: “ما من شكوى يبثها حال المرأة المسلمة ويلغط بها دعاة “تحريرها” أمس واليوم إلا ولها نصيب كبير من الصحة : استعباد المدنية، والمعاملة المهينة للبدوية والأمية الأبجدية والجهل والأجور البئيسة، واستغلال الصبيات في معامل تأكل من عرقهن البطون الحرامية، والتعدد الاعتسافي، والطلاق الجائر وإكراه الفتيات على الزواج، والتحايل على نصيب المسلمات من الإرث. والقائمة طويلة” [2]. لكن هل تبرر قتامة وضع المرأة في المجتمعات المعاصرة خاصة المسلمة منها مشروع التحرير التغريبي؟ ما هو التصور الذي يؤسسه الإمام “عبد السلام ياسين” لقضية المساواة؟

وجه الإمام نقدا لاذعا لدعاة تحرير المرأة من التغريبيين، معتبرا أن كثيرا من دعوتهم للمساواة بين الجنسين تستبطن التنكر لأحكام الإسلام ومناهضتها، يقول: “يدور نضال المدافعين عن حقوق المرأة من جانب التغرب والإباحية حول مطلب محوري هو المساواة بين الرجل والمرأة. ومن ثَم شطب كل الأحكام الخاصة التي أفردت بها الشريعة المسلمات” [3]. ومن الأحكام التي يعترض عليها هؤلاء قضية الدرجة التي أقرها الإسلام للرجال على النساء، ثم قضية الإرث، فقضية دية المرأة المقتولة، وأخيرا قضية شهادتها في القضايا الجزائية.

وقد ناقش الإمام المنكرين على الإسلام في قضية الدرجة معتبرا أولا أن هذه المسألة تعد من المسلمات في الدين، حيث أن “الإيمان بدرجة الرجال على النساء إيمان بالقرآن، والكفر بها كفر بالقرآن. فهذا فيصل ما بيننا وبين أعداء الدين. الدرجة للرجال على النساء مزية ثابتة بالكتاب والسنة. قال الله تعالى: ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف. وللرجال عليهن درجة. والله عزيز حكيم (سورة البقرة، الآية: 226)” [4]. لكن الإقرار بهذه الحقيقة القرآنية يجب ألا يحجب ضرورة تحرير الفهم السليم لهذه القضية الحساسة، لأن الفهم السقيم لهذه الدرجة قد يكون مصدرا لكثير من الانتهاكات التي تعرضت لها المرأة المسلمة خلال التاريخ، وما تزال حاضرة في كثير من التجمعات الإسلامية ومفسرا لتجذرها في نفس الوقت. فإلى أي حد فَقِه المسلمون (علماء وعامة) هذه القضية كما أراد الله لها أن تكون؟ وهل يعكس تاريخ ممارساتهم وواقعها الحالي هذا الفهم السليم؟ 

يتساءل الإمام “ياسين” بدوره حول دلالة هذه الدرجة في الشريعة القرآنية فيقول: “لكن ما مضمون هذه الدرجة؟ أهي براءة تمنح للرجل وتفويض لكي يدوس المرأة تحت قدميه أم هي مسؤولية رعاية أمينة وقيادة رحيمة؟” [5] ثم يوضح السياق القرآني الذي ورد فيه الحديث عن هذه القضية ودلالتها العامة: “جاءت الآية في سياق أحكام الطلاق. والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما يقول الفقهاء. فتثبت الدرجة للرجال في الشأن الخاص في الحياة الزوجية، وفي الشأن العام في الحياة السياسية الاجتماعية” [6]. لكن الإمام يقر في نفس الوقت بوجود فهم فقهي في التاريخ الإسلامي وفي حاضره لم يوفق في إدراك مقاصد الإسلام من هذه الدرجة المخولة شرعا للرجل على المرأة. واستشهد في هذا السياق ببعض الاجتهادات لفقهاء أوصلهم الفهم إلى اعتبار المرأة مواطنا من درجة ثانية من حيث الحقوق والكرامة والواجبات. وبطبيعة الحال نتج عن هذا الاعتبار ضرر عظيم للمرأة تجرعت مرارته واكتوت بلظاه النسوة في المجتمعات المسلمة باستثناءات قليلة. يقول الإمام “عبد السلام ياسين”: “يفسر الفقيه الواقعي الذي ينزل الفتوى على ما هو كائن في عصره وما هو ممكن مفهوم الدرجة والرعاية والمسؤولية تفسيرا واقعيا. فالدرجة في تفسير الحافظ ابن كثير هي درجة “في الفضيلة والخَلْق والخُلُق والمنزلة وطاعة الأمر والإنفاق والقيام بالمصالح والفضل في الدنيا والآخرة” [7]. ويعترض الإمام على هذا الانزلاق الذي حصل في الفهم والممارسة معتبرا أنهما يصطدمان مع صريح العبارة القرآنية بقوله: “بعبارة موجزة فهي “مواطنة” من الدرجة الثانية في الدنيا والآخرة. وهذا ما يصادم صدر الآية الذي جعل وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ (سورة البقرة، الآية: 226) ويصادم في ما يرجع لفضل الآخرة قوله تعالى مخبرا عن السعداء أولي الألباب: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ ۖ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۖ (سورة آل عمران، الآية: 195)” [8]. وبهذا يؤكد الإمام أن النص القرآني ليس بالقطع مصدر الانحراف الذي أفرز الوضعية المزرية للمرأة المسلمة، بل إن الخلل حصل في فهم أجيال من الفقهاء وتبعتهم العامة في الممارسة. لأجل ذلك نَصَّ على أن المرجع الذي يجب اعتماده في تحقيق فهم سليم لكتاب الله هو السنة والسيرة النبوية. يقول: “القرآن حمال أوجُهٍ كما قال الإمام علي كرم الله وجهه. والسنة القولية والفعلية هي الضابط والتفسير والنموذج التطبيقي”[9]. فبماذا تخبرنا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم القولية وسيرته العملية عن وضعية المرأة في المجتمع النموذجي الذي أشرف على تأسيسه لبنة لبنة؟

يتعلق الإمام “ياسين” بالنموذج النبوي معتبرا أنه يمثل التجسيد العملي السليم لنصوص القرآن وتعاليمه، ويحث على الرجوع إليه للاقتداء به؛ يقول: “نرتفع بحذاء النموذج النبوي الذي يصور لنا المرأة شخصا محترما مكرما مستقلا شجاعا عالما متعلما مشاركا في الحياة لا كَمًّا مهملا. شخصا تحترم حقوقه العامة ويدلل في البيت ويُتلطف به. ويصور الراعي ذا الدرجة رحيما رقيقا لا جبارا عنيدا” [10]. ثم عرض المؤلف نصوصا تعرض بنوع من التفصيل هذا النموذج ومنها ما يكشف النقاب عن سلوك رسول الله صلى الله عليه في بيته ومعاملته لنسائه والتي تعكس نظرته للمرأة وحقوقها وضوابط عشرتها. “كتب ابن قيم الجوزية رحمه الله في “زاد المعاد”: “كانت سيرته مع أزواجه حسن المعاشرة وحسن الخلق. وكان يُسرِّب إلى عائشة بنات الأنصار يلعبن معها. وكان إذا هَوِيَتْ شيئا لا محذور فيه تابعها عليه. وكانت إذا شربت من الإناء أخذه فوضع فمه في موضع فمها وشرِب. وكانت إذا تعرقت عَرْقا وهو العظم الذي عليه لحم أخذه فوضع فمه على موضع فمها. وكان يتكئ في حجرها ويقرأ القرآن ورأسه في حجرها وربما كانت حائضا. وكان يأمرها وهي حائض فتتزر ثم يباشرها. وكان يقبلها وهو صائم. وكان من لطفه وحسن خلقه مع أهله أنه يمكنها من اللعب، ويريها الحبشة وهم يلعبون في مسجده وهي متكِئة على منكبيْه تنظر. وسابقها على الأقدام مرتين، وتدافعا في خروجهما من المنزل مرة” [11]. ويعقب الإمام “ياسين” متحسرا: “هبطت رعاية الرجال للنساء مع الهبوط العام فأصبحت الزوجة والأم والأخت عضوا منكمشا محبوسا لا يكاد يظهر له أثر في مجمل النظام الاجتماعي الاقتصادي… وساد فقه السجن الذي يريد للمرأة أن لا تخرج من البيت إلا مرتين: مرة من بيت أبيها إلى بيت زوجها، ومرة من بيت زوجها إلى القبر” [12].

ويخلص الإمام “عبد السلام ياسين” بصدد قضية الدرجة التي منحها القرآن للرجال إلى أنها في ظاهر الأمر ترجيح لكِفة هؤلاء، لكنها في حقيقة الأمر “تثقيل لميزان الرجل بمثاقيل المسؤولية، وتخفيف عن أعباء المرأة التي ندبها الشرع لمسؤولية عظيمة يصرح بها الشرع ويلوح إليها ويضمِّنها أحكام التوزيع للواجبات والمسؤوليات بين الرجل والمرأة” [13]. هي في الأساس “إمارة في القافلة الاجتماعية الزوجية السياسية. هي بمثابة أمير السفر الذي أوصت به السنة النبوية. إمارة بدونها تكون الفوضى في القافلة، فتضعف، فيجد العدو فيها مغمزا، فيعدو عليها ويمزقها” [14].

غير أن المغربين والمغربات يؤاخذون الإسلام على تشريعاته بصدد المرأة ويتهمونه باحتقارها حين جعل نصيبها من الميراث نصف نصيب الرجل، وحين رفض قبول شهادة المرأة الواحدة واشترط اثنتين في مقابل شهادة الرجل. لكن الإمام المرشد يرد على هذه المؤاخذات بقوله: “إذا أخرجت الحكم الشرعي في الميراث عن نسقه الإسلامي الكلي فالإجحاف والظلم باديان صارخان في كون الأنثى ترث نصف ميراث الذكر. لكن إن اعتبرت هذا الحكم في نسقه الكلي وجدت أن المسلمة أحسن إليها الشرع حيث حباها بنصيب من الميراث تشتمل عليه احتياطا لدوائر الزمن، وتستثمره بحرية ليوم الحاجة ولإنفاقها في سبيل الله، بينما رزقها وكسوتها وسكنها وسائر نفقاتها كُلِّفَ بها الأب وهي صبية أو أيِّمٌ، وكلف بها الزوج الكاسب “[15]. إذن فكون حق المرأة في الميراث نصف حق الرجل ليس معناه أن الحكم الشرعي يقضي بالدونية عليها ولا بأنها نصف إنسان، بل هو دليل على أن النفقة عليها هي من مسؤوليته أبا وزوجا. تفسير هذا التفضيل الظاهر أن “الرجل هو الكاسب المنفق المُحَمَّل بأعباء ماديات الحياة لتتفرغ المرأة لحمل الإنسان، ووضع الإنسان، وأَنْسَنَةِ الإنسان، وتربية الإنسان. فإِذا أحوجها إلى الكسب فساد البيئة والفقر والبؤس وانشطار العالم إلى جنوب مفقر وشمال متخم فهي ضحية فساد في العالم” [16].

أما فيما يخص قضية شهادة المرأة فإن “الدين إن جعل شهادة المرأة الواحدة لا تقوم مقام شهادة الرجل فإنما ذلك لأن المرأة هي قطب الرحمة والحنان والسماحة، لا تحضر الخصومات، ولا تلتفت إلى مواطن المعارك الشخصية والنزاعات في الأسواق” [17]. وبصدد مسألة دية المرأة يوضح الإمام “ياسين” أن هناك سوء فهم كبيرا لمقاربة الإسلام لها، ذلك أن “نصف الدية إنما يؤدى عن المرأة إن كان القتل خطأً. أما إذا قتلت عمدا فالدية كاملة يتساوى فيها الرجل والمرأة. تكافؤ كامل في القتل العمد لأن النفس والقيمة الإنسانية واحدة، لا يفضل فيها أحد أحدا. أما في القتل الخطأ، فالمقتولُ الرجلُ كاسِبٌ رزئت عائلته في رزقها، فوجب التعويض لها. بينما المقتولة المرأة في الخطأ مكفولة المؤونة يكسب عنها غيرها…” [18].

وإجمالا يخلص الأستاذ ياسين إلى أن “المؤمنات والمؤمنين أكفاء في شرع الله المنزَّل بميزان العدل. لا ترجَحُ كفة الرجل ولا كِفة المرأة إلا بالتقوى. تجد هي ويجد هو فضل ذلك الرجحان في ميزان الحسنات يوم القيامة. أما التكافؤ في الحقوق والواجبات هنا في الدنيا فمحكوم بشريعة مفصلة ثابتة ثبوت الفَلَك الدَّوّار وثبوت نواميس الله في الكون. فإذا وقع التحول بالهبوط أو الانحراف في أشخاص ذوي الحقوق وفي بيئتهم الاجتماعية والعالمية فإن مرونة الاجتهاد تُكيف ما بين الواقع وبين المطلوب الشرعي بالتدرج والتقريب وإعمال وازعَيْ القرآن والسلطان” [19].


[1] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، الجزء الأول، ص 53.
[2] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[3] نفسه، الجزء الأول، ص 55.
[4] نفسه، ص 55.
[5] نفسه.
[6] نفسه.
[7] نفسه، ص 54.
[8] نفس.
[9] نفسه، ص 53.
[10] نفسه، ص 54.
[11] نفسه.
[12] نفسه.
[13] نفسه، ص 203.
[14] نفسه.
[15] نفسه، صص 207 / 208.
[16] نفسه، ص 215.
[17] نفسه.
[18] نفسه، ص 205.
[19] نفسه.

من كتاب “قراءات في الفكر المنهاجي”، للدكتور رشدي بويبري، الطبعة الأولى، 2021، صص 77 – 88.