قضية المكانة الاجتماعية والمشاركة السياسية
ما هي مكانة المرأة في مجتمع المسلمين، كما حددها الإسلام؟ كيان حقير مستضعف، أم لعبة في أيدي الذكور يستمتعون بها كما يحلوا لهم؟ أم شخصية كاملة ورقم أساس في معادلة البناء الإسلامي؟ ما هو المجال الحيوي التي تبرز فيه قيمة المرأة وجدواها الوظيفية والاجتماعية؟ هل من حق النساء في المجتمع المسلم أن يشاركن في تسيير شؤونه العامة وتحمل المسؤولية بين أبنائه وبناته؟ ماهي ميادين المشاركة وطبيعة المسؤولية وحدودها؟
يقول الأستاذ المرشد: “ما يكون لكمالها العلمي والخلقي وتقواها إلا زينةٌ عقيمة إن أفادتها إفادة فهي فائدة محدودة، ينقطع بعد الموت عملها إن لم تُخَلِّفْ ذرية صالحة، إن لم تساهم في بناء الأمة، إن لم توظِّف كمالها العلمي والخلقي والقلبي في صنع مستقبل أمتها، واكتفَتْ بكونها معْبَراً لبروز الذرية، ومحطة لمرورها” [1]. ويوضح قصده بقوله: “موقعها الاجتماعي بصفتها أما مؤمنة يلزمها العملَ على تربية أطفالها نفسيا وعقليا وعمليا ليتأهلوا في مهنة الاندماج الاجتماعي، ومهنة الإنتاج الاقتصادي، ومهنة العضوية الفاعلة المؤثرة في الحياة. تعمل على ذلك بمساعدة مدرسة هي من الأهداف السابقة للدعوة، تحتضنها الأمهات المؤمنات، ويُسرِّبْن إليها العافيةَ بتألُّف المعلمات والأستاذات وتقريبهن وتهذيبهن. مستقبل أطفالهن الشخصي ونجاحهم في الحياة مرتبط ارتباطا عضويا بمهمتهن الدعوية” [2]. فلا بد إذن من أن “تكون لِلأمهات كلمتهن في توجيه المدرسة، بل يُلقى عليهن حِملٌ من حِملها وثقْلٌ من ثقلها. المدرسة ـ من المهد إلى اللحد ـ محور دائرة الصراع المستقبلي بين حضارة الأشياء، حضارة الاختراع، حضارة العلوم الكونية، وبين الرسالة العزلاء حاضرا، لا يرجى لها بلاغ ولا في دنيا المدافعة والمزاحمة مُطّلَعٌ إن لم تأخذ بأسباب القوة، وتتمكنْ من سلاح العلوم، وتُوَطن التكنولوجيا” [3]. كما أن “من أهم ما تندب إليه المؤمنات أنفسهن إنشاء محاضن تعمل فيها أمهات متطوعات صالحات يُصلح حضورهن ومراقبتهن ومِثالُ إخلاصهن وإشعاع إيمانهن ما تميل الأيدي الأجيرة لإهماله وإفساده… ومن أهم ما تندب الأمهات الصالحات والآباء الصالحون إليه أنفسهم إنشاء جمعيات من الطبيبات المحسنات والأطباء والفضلاء لرعاية الشباب وتوجيهه في طور المراهقة. طور يحتاج فيه الشاب وتحتاج الشابة من ينصح ويزود بمعلومات دقيقة عن كنه الثورة الجسدية وانقلاب الكيان البيولوجي. يحول الخجل وتحول العادة دون تلقين الأبوين معرفة البلوغ والمراهقة ومشاكلها. فالجمعيات الطوعية تنوب فيها أم عن أم في ترشيد البنت” [4]. مسؤولية المرأة إذن في مستوى أول يحدد مجالها ما أورده الحديث النبوي الشريف: “والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولية عن رعيتها…” [5]، ولكن الإمام “ياسين” يتساءل هل نسخ تأكيد هذا الحديث على مسؤولية المرأة في البيت مسؤوليتها خارجه؟
قبل تفصيل الجواب عن هذا السؤال أورد الإمام “ياسين” الجدال الفقهي الكبير الذي صاحب تناول فقهاء المسلمين لقضية كفاءة المرأة المسلمة وحقها في تحمل المسؤولية السياسية وتولي الشؤون العامة وجواز ذلك وحدوده. وعرض خلاصة النقاش الفقهي والخلاف المذهبي حول هذه القضية الذي أورده الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي في كتاب “الفقه الإسلامي وأدلته”، يقول الفقيه عن الذكورة: “هي شرط أيضا عند غير الحنفية، فلا تُوَلّى المرأة القضاء لقوله صلى الله عليه وسلم: “لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة”، ولأن القضاء يحتاج إلى كمال الرأي وتمام العقل والفطنة والخبرة بشؤون الحياة. والمرأة ناقصة العقل، قليلة الرأي، بسبب ضعْف خبرتها واطلاعها على واقع الحياة. ولأنه لا بد للقاضي من مجالسة الرجال من الفقهاء والشهود والخصوم. والمرأة ممنوعة من مجالسة الرجال بعدا عن الفتنة. وقد نبه تعالى على نسيان المرأة فقال: “أنْ تضِلّ إحداهما فتُذَكّر إحداهما الأخرى”. ولا تصلح للإمامة العظمى ولا لتولية البلدان. ولهذا لم يوَلِّ النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه ولا مَنْ بعدَهم امرأة قضاء ولا وِلاية بلد… وقال الحنفية: يجوز أن تكون المرأة قاضيا في الأموال، أي في القضاء المدني، لأنه تجوز شهادتها في المعاملات، ويَأثَمُ الـمُوَلِّي لها للحديث السابق “لن يفلح…”. أما في الحدود والقصاص، أي في القضاء الجنائي، فلا تُعيَّن قاضيا لأنه لا شهادةَ لها فيه. ومن المعلوم أن أهلية القضاء تُلازم أهلية الشهادة. وقال ابن جرير الطبري: يجوز أن تكون المرأة حاكما على الإطلاق في كل شيء، لأنه يجوز أن تكون مفتية. فيجوز أن تكون قاضية” [6].
أما الإمام فيحدد موقفه من هذه القضية الشائكة قائلا: “مسؤوليتها في البيت سنة قرأناها، ومسؤوليتها خارجه قرآن نقرأهُ في قوله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(سورة التوبة، الآية: 72)” [7].
ثم يضيف “ما تنسَخ مسؤولية المرأة في بيتها مسؤوليتها خارجه إلا كما تنسخ سائر التكاليف الشرعية عنها. وهي لا تفعل. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تكليفان على المرأة منهما مثل ما على الرجل. عليهما من ذلك مثلُ ما عليهما من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله. لو جاز للمرأة أن تترك الصلاة أو بعضها بدليل الحديث الحكيم الذي وزع المسؤوليات وعين الرعِيَّات لجاز لها أن تنسحب من ساحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” [8]. فهذا الواجب الديني “مسؤولية مشتركة بين الرجال والنساء، هما العمل التضامني الذي يوقف الوَلاية بين المؤمنين والمؤمنات على قَدَمٍ” [9].
ويربط الامام “ياسين” بين فرائض الدين مثل الصلاة والزكاة وبين المسؤولية السياسية فيقول: “تدخل الصلاةُ وتدخل الزكاةُ في طاعة الله ورسوله كما يدخل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دخولا اندماجيا لا فصل معه بين الدين والسياسة. الدين سياسة والسياسة دين. والمرأة المؤمنة كالرجل المؤمن نصيبها من المسؤولية السياسية مثل نصيبه…” [10]. بل إنه يؤكد للمرأة المسلمة أن لا دليل شرعي من القرآن والسنة يقصيها من تحمل مسؤوليتها السياسية بشكل كامل. يقول: “ما هنا لكُنّ معشرَ المؤمنات من دليل يُقيلكن ويعفيكن من المسؤولية السياسية. إن كانت السنة المطهرة خصصت لكن مجالكن الحيوي حيث تزاولن أمانة الحافظية صالحاتٍ قانتات، فعموم القرآن أهاب بكن إلى تعبئة شاملة تدْعَمْنها بما يفيض من وقتكن وجهدكن بعد أداء واجبكن التربوي الأساسي” [11].
وعدَّدَ الإمام مجالات ممارسة المرأة لمسؤوليتها السياسية “ليست تربية الأجْيال إِلا ترسيخا للمعروف وإبادة للمنكر. فأنتن تزاولْن السياسة في البيت والمدرسة والمعهد والجمعية الإحسانية وميدان الشغل والكسب ـ لمن كانت منكن كاسبة ـ أسمى ما تكون السياسة… فيما دون الإمامة العظمى مرعىً للمرأة ومسؤولية. ما يغمطها المؤمنون حقها متى أظهرت كفاءة وقدرة” [12].
خلاصة القول إذن أن “تولي المرأة من المناصب ما لا تتعارض رعايته مع رعاية ما أناط بها الحديث العظيم من مسؤولية تربوية، وما لا يخدش عِرْضها، وما لا ينُوءُ بأعصابها وقدرتها، وما لا يُخرجُها عن طبيعة الأمومة والحنان والإحسان، أمر لا نجد له من نص يرفضه” [13].
[1] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، مطبوعات الأفق، الطبعة الأولى، 1996، ج 2، ص 219.
[2] نفسه.
[3] نفسه، ص 247.
[4] نفسه، صص 282 – 283.
[5] هو جزء من حديث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ” متفق عليه.
[6] نفسه، صص 311 – 314.
[7] نفسه.
[8] نفسه، صص 303 – 304 – 305.
[9] نفسه.
[10] نفسه.
[11] نفسه.
[12] نفسه.
[13] نفسه، ص 306.
من كتاب “قراءات في الفكر المنهاجي”، للدكتور رشدي بويبري، الطبعة الأولى، 2021، صص 99 – 107.