هي امرأة من قريش ذات رأي وأدب جمٍّ. خطبها الرسول صلى الله عليه وسلم في الجاهلية، وكان أبوها قد وعد بها هُبَيْرة بن أبي وهب، فظفر بها.
فمن هي هذه المرأة العظيمة؟
أسلمت يوم فتح مكة، بينما أبى زوجها اعتناق الإسلام، وبدلا من ذلك فرّ هارباً، تاركا خلفه أربعة أطفال صغار، تولت رعايتهم بمفردها، فكانت لهم نعم الأب ونعم الأم.
خطبها الرسول الأعظم ثانية فقالت: “يا رسول الله، لأنت أحب إلي من سمعي وبصري، وحق الزوج عظيم، فأخشى إن أقبلت على زوجي أن أضيع بعض شأني وولدي، وإن أقبلت على ولدي أن أضيع حق الزوج”. فعذرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله هذه الآية: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً (الأحزاب، من الآية 50).
وامتثالا لهذا الأمر الرباني، أصبحت لا تحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها لم تهاجر، بل كانت من الطلقاء.
فقال رَسول اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: “نِسَاءُ قُرَيْشٍ خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الإبِلَ؛ أحْنَاهُ علَى طِفْلٍ، وأَرْعَاهُ علَى زَوْجٍ في ذَاتِ يَدِهِ”. يقولُ أبو هُرَيْرَةَ علَى إثْرِ ذلكَ: “ولَمْ تَرْكَبْ مَرْيَمُ بنْتُ عِمْرَانَ بَعِيرًا قَطُّ”. (أخرجه البخاري في صحيحه/ 3434 والإمام مسلم في صحيحه/2527).
وكانت لهذه المرأة العظيمة شخصية قوية في عهد الإسلام – وحتى في الجاهلية – تُجير الخائف، وتؤَمّن المروِّع؛ فقد أجارت رجلين من أحمائها كُتب عليهما القتل. وهاهي تحدثنا عن ذلك: لما كان عام يوم الفتح فرّ إليّ رجلان من بني مخزوم فأجَرْتُهُما، قالت: فدخل عليَّ عليٌّ فقال: “اقتلهما”. قالت: فلما سمعته يقول ذلك أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- وهو بأعلى مكة، فلما رآني رسول الله – صلى الله عليه وسلّم – رحّب وقال: “ما جاء بك يا أم هانئ؟” قالت: قلت يا رسول الله، كنت أمّنت رجلين من أحمائي، فأراد عليّ قتلهما، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلّم -: “قد أجرنا من أجرت”. ثم قام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى غسله فسترته فاطمة، ثم أخذ ثوبا فالتحف به، ثم صلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ ثمان ركعات سبحة الضّحى”. (رواه مسلم). وفي رواية البخاري: قال النبي – صلى الله عليه وسلم – لها: “مَرْحَباً بِأُمِّ هَانِئٍ .. قدْ أَجَرنَا مَنْ أَجَرتِ يَا أُمَّ هَانِئ”. وفي رواية أحمد: أنهما رجلان من أحمائها، فقال لها النبي – صلى الله عليه وسلم -: “قد أجرنا من أجرت، وأمَّنا من أمَّنت فلا يقتلنَّهما”.
إنها أم هانئ فاختة بنت أبي طالب بن عبد المطلب؛ هي ابنة عم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخت سيدنا عليّ بن أبي طالب.
وقد روى أصحاب الصحاح الستة جميعا عن أم هانئ، وعاشت حتى جاوزت عهد أخيها عليّ رضي الله عنه.
أرأيت أخيّة الإسلام، كيف رفع الإسلام مكانة المرأة، وأعلى منزلتها، وحرّرها من القيود والعادات التي كانت في الجاهلية!
هذه المرأة الرائدة الجليلة هي نموذج للمرأة التي تربي أبناءها. فأمومة المرأة فيض غامر من الحب والعطف والحنان والإيثار والبذل والتضحية والصبر والفداء والجهاد..
أم هانئ ضحّت بأجمل منزلة؛ أن تكون أما للمؤمنين، وفضلت أن تربي وتحنّ على أبنائها، فأكبر الرسول صلى الله عليه وسلم رأيها إكبارا، فقلدت قريشا بأسرها تلك الشهادة العالية الكريمة!
لذا أقول لكل أم مضحية، تتأْلمُ في صمت ولا تشتكي، تهب بلا حساب، تسهر لننام، وتتعب لنستريح.. إن في طاعتك الخير والمنة، وفي رضاك الفلاح والجنة.
فلك منا أسمى عبارات الشكر والتقدير والعرفان.