“إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ”

Cover Image for “إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ”
نشر بتاريخ

ناداهم ربهم بأجمل أوصافهم وأعز مراحل عمرهم، وتلك هي سيمتهم، بها يتغنون وفي رحابها يحلقون وبجمالها يتباهون. نسبهم إليه توددا فقال “آمنوا بربهم” ولم يقل آمنوا بالله، كأنما أراد سبحانه وتعالى أن يتجلى عليهم بجمال وداده، وهو خالقهم القريب منهم، إليه يهمسون بتقلب أحوالهم وبه يستعينون على التهاب ما في داخلهم، إنه ربهم؛ يشكون إليه وعورة الطريق ويناجونه بكامل ضعفهم أن يلهمهم الثبات في زمن الانفلات.

 ممسكون بآمالهم التي تعانق السماء لكنهم يخططون لها في محاريب الدعاء. آمنوا بربهم، آمنوا برحمته آمنوا بقدرته، آمنوا بكرمه، آمنوا بقربه، آمنوا بجماله وجلاله وكماله، ورفعوا أكف اليقين ليزيدهم هدى، ولا تكون الزيادة إلا لموجود، وما إيمانهم إلا مفتتح هدايتهم وما الزيادة إلا تتويج لثباتهم، هداية القلب للإيمان، وهداية العقل للتخطيط، وهداية الروح لتتحرر من أسر الطين وتسبح في الملكوت، وهداية السر للكينونة مع الله، وكل زيادات خالقهم لا تعد ولا تحصى، فالكريم لا حد لكرمه.

كان ولا بد من صحبة تزيل وحشة الطريق.

كان ولابد من هم مشترك يؤسس لحقيقة السير.

كان ولابد من غفوة جعلها ربي أمنة نعاسا ليتولى أمر الصادقين المتعبين من رهق الخطى. قلبهم ذات اليمين وذات الشمال ليتعرف إليهم باسمه اللطيف، وأنزل سكينته عليهم.

كان لابد أن تتجلى العناية بكل هؤلاء الفتية لنتعلم منهم صدق التخلي وصدق الحب وصدق الوفاء، ونرى بعين اليقين كيف أصبح الراعي آخر الملتحقين بكوكب النور سيدا من سادات الحقائق، وكيف رفع الله ذكره وذكر كلبه الذي اختار حراسة فتية الكهف، فصار اسمه مخلدا في العالمين.

في الطريق إلى الله لا فرق بين الخادم والسيد َ

في الطريق إلى الله تتساوى مراتب الناس في الدنيا، فلا تقريب إلا لمن امتلك قلبا امتلأ كله بالله.

في الطريق إلى الله “إن أكرمكم عند الله أتقاكم”.

في الطريق إلى الله يسبق من وقر له شيء في قلبه، أما صراع الجوارح فحكمها لمن يعلم السر وأخفى.

الكهف؛ ذاك القلب العظيم الذي احتضن خوفهم ودهشتهم، وأغلق عليهم فيه ربهم أبواب الأغيار لتصفو أسرارهم.
تخَلَّوا عن أعلى مناصب دنياهم، وودَّعوا قصورهم، وفرُّوا إلى كهف بعيد عن أعين الناس، في أعظم تجربة للتخلية.

لم تكن خلوة فردية، وإنما رباطا جماعيا ومعتكفا تجاوز أعمارا، في إشارة إلى أن الطريق إلى الله إذا بدأته في الدنيا في عز شبابك فقد جعلت عمرك ممتدا يتجدد بتجدد همتك، ويكفي عند الله صدق البدايات ليكفل لك شروق النهايات.

إنهم فتية، إنهم أهل الإقبال، وإذا أقبل عليك الله جعل قلوب الناس تقبل عليك وتحبك وتدعو لك بظهر الغيب. كلما قبضت على جمر الفتن، أمسك الله بقلبك وجعلك عنده مقربا.

فالزم غرز الصادقين، فإن في عرف العابدين الصاحب ساحب، والفتوة همة لا تقبل الهزيمة، فكن ساحبا لا مسحوبا، وكن ذا همة إذ على قدر همتك تعطى، وعلى قد صدقك تُزَكّى. والحمد لله رب العالمين.