حق لكل محب أن يتناول هذه الآية العظيمة العالية المقام بعلو حضرة قدس الله العلي، وعلو حضرة النبي البهي، ذي الضياء السني..
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (سورة الأحزاب، 56).
يستمد الحبيب من نور الحضرة القدسية نصيبه التام من العطاء ليوزعه قسمة أمداد وإمداد، تحمله الملائكة على أطباق من نور، تمسح بها وجع كل ذي وجع، وتفتح بها باب كل مستفتح، وتقضي بها حاجة كل ذي حاجة…
“إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ”؛ هي إذاً معية شرف ارتفعت بمخلوقات النور ارتفاع ذي الفضل والإنعام، وارتفاع من نال الفضل والإنعام.
صحبة الله ورسوله ورثت نورا يكسو جمال الكون ضياء وطاعة لا تقبل الفتور… إلى هذه النورانية العالية دعانا الله عز وجل في علاه إلى الارتقاء، فأمرنا بالصلاة على الحبيب خطابا موجها إلى الذين آمنوا.
“الَّذِينَ آمَنُوا”؛ أمنت أرواحهم وهم يشاركون الملأ الأعلى في التجمل الروحي المُزَيَّا بصيغ الصلوات المأثورة، ليكتمل التأسي تيمنا بالمصلى عليه صلوات ربي وسلامه عليه أن يجود بدوام الحضور كلما استدعته القلوب المحبة.
أما الصلاة الإبراهيمية فمن فوق سبع سماوات تجلت، في مشهد هو بحق أجمل روائع اللقاء في رحلة المعراج؛ حوار بين محب ومحبوبه، حوار المناجاة؛ “التحيات لله”، وقد أوتي الحبيب جوامع الكلم، “الطيبات لله، الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته”؛ خطاب علوي وتحية ربانية بما هي تخصيص ونور، اجتباء وحب. الله السلام يتجلى على حبيبه بالسلام.
أما المكيال الأوفى فميزان موفى، اسم تفضيل معرف، له من الدلالة ما يجعل المكيال في أعلى المراتب بعد الصلاة الإبراهيمية..
عن أبي هريرة مرفوعا: “من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا أهل البيت فليقل: اللهم صلِّ على محمد النبي الأمي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد” (1).
نضيف لفظ السيادة تأدبا ونحن في حضرة جنابه الشريف، وكيف لا وقد قال المولى عز وجل في كتابه العزيز : لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا (النور، 63)، وكذلك قال حبيبنا صلوات ربي وسلامه عليه: “أنا سيدُ ولدِ آدمَ ولا فخر” (2).
حيثما ذكرت سيدنا محمدا فثم نور الله؛ يستضيء قلبك وتنقشع ظلمانيته وينبلج ليله ويسفر عن صبح تنفس في ثنايا الروح.
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ (سورة الأحزاب، من الآية 43).
النور المحمدي زينة الحب ومفتاح الوصل وعنوان الصفاء، استمع لهذا الحديث العظيم (مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً، صَلَّى الله عَلَيْهِ عَشْرًا) (3)، أبعد هذا الشرف تتراخى ألستنا عن الصلاة على الحبيب المصطفى؟! الله تعالى بجلاله وكماله وبنور تجليه الأعظم يمنحك هذا التخصيص؛ فيصلي عليك ويغدق عليك برحماته عطاء غير ممنون، ويحملك بمحامل الحب وأنت ترسل صلواتك لعين الرحمة وتخصص محبوبه بالذكر. لعيون حبيبه يسامحك، ولفرحة روحه يؤثرك، ولدموع شوقه لأمته يستخلصك، ولإشفاقة قلبه يمنع عنك ما يؤذيك، لو أننا نعلم مقدار محبة الله لحبيبه، لو أننا نشعر بحجم هذا الحب لما غادرت أرواحنا محراب الشوق، ولطافت به طواف المرابطين على مقامه الشريف، ولجعلت من ذكرى مولده موعدا يتجدد فيه العزم على أن تؤثر محاب محبوبك عن محابك، ولسعيت جاهدا في اقتفاء أثره حبا وهياما وجهادا بما توفر بين يديك من عطاء ربك؛ لا تنسبه لنفسك ولكن احمد ربك أنك من أمة حبيبه صلوات ربي وسلامه عليه، وأنه ألهمك حسن الاتباع، وقذف في قلبك عظيم الحب، وألهب داخلك بلهيب الشوق، وجعل موعدك مع حبيبك موعدين:
موعد معية في الدنيا، بدليل قوله تعالى وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ (سورة الحجرات، من الآية 7)، فتراه يسكن أعماقك، وينير وجدانك، ويكفيك بصحبته عن صحبة غيره من خلق الله.
وموعد في الآخرة، عندما تكون رفيقا له في الجنة لا تعدو روحك عن روحه.
لنكثر كما أكثر الأولون في الصلاة عليه. أما عن العدد؛ صحيح أن العلماء المحبين جعلوا أقل القليل ثلاثمائة مرة في اليوم، لكن قلبك المحب لن يرضى لنفسه هذا البخل، دليلُك شوقُك ومحبتك، وكلما زدت زاد قربك وعظم وصلك؛ “إن أقربكم مني يوم القيامة في كل موطن أكثركم علي صلاة في الدنيا” (4).
فهنيئا لمن جعل الصلاة على الحبيب عادة لسانه، وعبادة قلبه، وعدة وصله، ومفتاح دخوله على ربه.
(1) أخرجه أبو داود وسكت عنه أيضا المنذري.
(2) “أنا سيدُ ولدِ آدمَ ولا فخر وأنا أولُ من تنشقُّ الأرضُ عنه يومَ القيامةِ ولا فخر وأنا أولُ شافعٍ وأولُ مشفَّعٍ ولا فخر ولواءُ الحمدِ بيدي يومَ القيامةِ ولا فخرَ” رواه أبو سعيد الخدري، صحيح ابن ماجة (3496).
(3) الحديث أخرجه مسلم (408)، وانفرَد به عن البخاري، وأخرجه أبو داود “كتاب الصلاة، باب في الاستغفار”، وأخرجه الترمذي “كتاب الصلاة، باب ما جاء في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم” (485)، وأخرجه النسائي “كتاب السهو، باب الفضل في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم” (1295).
(4) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن أقربكم مني يوم القيامة في كل موطن أكثركم علي صلاة في الدنيا، من صلى علي يوم الجمعة وليلة الجمعة مائة مرة قضى الله له مائة حاجة، سبعين من حوائج الآخرة وثلاثين من حوائج الدنيا، ثم يوكل الله بذلك ملكاً يدخله في قبري كما يدخل عليكم الهدايا، يخبرني من صلى علي باسمه ونسبه ونسب عشيرته، فأثبته عندي في صحيفة بيضاء”. ذكره السيوطي في الدر المنثور، وقال عنه: أخرجه البيهقي في شعب الإيمان وابن عساكر وابن المنذر في تاريخه.