تقديم
اعلم أخي أن الغاية التي يريدها كل تقي هي الفوز برضا الله تعالى والنظر إلى وجهه الكريم في دار الجزاء، لكن الحق سبحانه رتب هذا الفوز الكبير على إحسان السعي في دار الابتلاء، والإنسان بطبعه ظَلاَّمٌ لنفسه في هذه الدار، ينسى اللقاء ويخطئ العمل ويعصي الله ويتلهى بالدنيا ويُسَوف التوبة ويسْرِف على نفسه، حتى يأتيه الموت على غفلة فينقله رغما عنه! لهذا أوصانا الحبيب الطبيب صلى الله عليه وسلم بالإكثار من ذكر الموت قائلا: “أكثروا من ذكر هادم اللذات”، حتى تتضح لنا الرؤية ويستقيم لنا السلوك ونكون على هدى من الله، وحتى تتقلص المادة في قلوبنا وتتوارى إلى حجمها الحقيقي.
وتدْعُوكَ المنونُ دعاءَ صـدقٍ
قال سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم: “لو تعلم البهائم من الموت ما يعلم ابن آدم ما أكلتم منها سمينا” 1 ، هذه البهائم غير مُكلفة، لم تُرسل لها الرسل ولم تنزل عليها الكتب، أما أنت أيها العاقل المكرم المبتلى فلمن تُسمِّن جسمك؟ ألم يأتك حديث الدُّويهية بموت غيرك؟ ألم تزر المقابر لتذكرك بِدُنو أجلك؟ ألم تفارق الأكابر الذين كانوا يملؤن الدنيا؟ وَهل تُحِس منهم من أحدٍ أو تسمع لهم رِكزا؟ كم ملكوا وولدوا ودرجوا وظلموا وتنعموا وتكلموا! فهل تسمع لهم اليوم صوتا أو سوطا أو سلطة؟ أين الجبابرة والقياصرة والأكاسرة؟ أين من أرغموا الناس على طاعتهم وطاعة أبنائهم بالترهيب والإكراه والاحتيال والاغتيال؟ أين الأغنياء والأقوياء والحكماء والنبغاء…؟
فاعتبر يا أخي يا عُبيد الله واعتبري يا أختي يا أَمَةَ الله! واعتبري يا نفسي الغافلة!
لو كلَّمَنا الموتى لكانت وصيتهم لنا بذكر الموت وتعجيل التوبة والتزود بالتقوى، ولنصحونا كما نصحنا سيدنا عيسى عليه السلام بقوله: الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها)، ولقالوا لنا مثل ما قال أحد الحكماء لرجل من إخوانه: يا أخي، احذر الموت في هذه الدار قبل أن تصير إلى دارٍ تتمنى فيها الموت فلا تجده).
قال الشاعر: وتدْعُوكَ المنونُ دعاءَ صدقٍ
ألا يَا صَاحِ أنْتَ أرِيدُ أنتَا
فلا تَقُلِ الصِّبَا فيه مَجَالٌ
وفكِّرْ كَمْ صبيٍّ قد دَفَنْتا
إذا ما لم يُفِدْك الذكرُ شيئًا
فليتَك ثمَّ ليتَك ما ذَكَرتا
إذا مَا لَمْ يُفِدْك العلمُ شيئًا
فليتَكَ ثمَّ ليتك ما عَلِمْتَا
وإنْ ألقاكَ فهمُكَ في مَغَاوٍ
فليتكَ ثمَّ ليتَكَ ما فَهمْتا
إصرارك كالصحيحين وإقلاعك حديث موضوع
ويدهشنا ابن الجوزي رحمه الله في كتابه “المدهش” بقوله:
إن لنجم الحياة لأُفُولاً ولشمسِ الممات لطلوعًا. أين أبوك؟ أين جَدك؟ السيف قطوع، كيف تبقى مع كسر الأصولِ ضعاف الفروع؟ تعلق الدنيا بقلبك وتعتذر بلفظ مصنوع. إصرارك كالصحيحين وإقلاعك حديث موضوع.
مزِّقْ أملك فالعمر قصير، حقّق عملك فالناقد بصير، زد زاد سفرك فالطريق بعيد، ردد نظر فكرك فالحساب شديد، صِحْ بالقلب لعله يرعوي، سلمه إلى الرائض عساه يستوي.
)سهر العيون لغير وجهك ضائع
وبكاؤهن لغير وصلك باطل
الموت معقود بنواصيكم
خطب سيدنا علي كرم الله وجهه يوما فقال: عباد الله. الموتَ الموت !، ليس منه فوت. إن أقمتم أخذكم، وإن فررتم منه أدرككم، الموت معقود بنواصيكم، فالنجا النجا! والوحا الوحا!(الوحا: السرعة) فإن وراءكم طالبا حثيثا وهو القبر. ألا وإن القبر روضة من رياض الجنة أو حُفرة من حُفَر النار. ألا وإنه يتكلم في كل يوم ثلاث كلمات فيقول: أنا بيت الظلمة، أنا بيت الوحشة، أنا بيت الديدان. ألا وإن وراء ذلك اليوم يوما أشد منه، يوما يشيب فيه الصغير، ويسكر فيه الكبير! )يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٌ ألا وإن وراء ذلك اليوم يوما أشد منه، فيه نار تستعر، حرها شديد وقعرها بعيد، وحُلِيُّها حديد، وماؤها صديد، ليس لله فيها رحمة). فبكى المسلمون بكاء شديدا، ثم قال: ألا وإن من وراء ذلك اليوم جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، أدخلنا الله وإياكم دار النعيم، وأجارننا وإياكم من العذاب الأليم) 2 .
ولا يعني العمل للموت وللآخرة وللقاء الله تعالى الزهدَ في الدنيا كليةً ومقاطعة الناس، وإنما جَعْلُ الدنيا طريقا للآخرة، فرصة الإعداد للحياة العظيمة الدائمة. وصرف صفوة الأوقات في صفوة الأعمال. قال سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه في وصيته: إنه لابد لك من نصيبك في الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج، فابدأ بنصيبك من الآخرة فخُذه فإنك ستمر على نصيبك من الدنيا فتنظمه). ولما جاء أبا الدرداء رضي الله عنه الموت قال :ألا رجل يعمل لمثل مصرعي هذا؟ ألا رجل يعمل لمثل يومي هذا؟ ألا رجل يعمل لمثل ساعتي هذه؟ ثم قبض رحمه الله.
مَرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بمجلس وهم يضحكون، فقال: “”أكثروا من ذِكر هادم اللذات”، أحسبه قال: “فإنه ما ذكره أحدٌ في ضيقٍ من العيش إلا وسعه، ولا في سَعَة إلا ضيقت عليه”” 3 . وقال صلى الله عليه وسلم: “كانت صحف موسى عليه السلام عِبَرا كلُّها: عجبت لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح، وعجبت لمن أيقن بالنار ثم هو يضحك، وعجبت لمن آمن بالقدر ثم هو ينْصَبُ، وعجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم اطمأن إليها، وعجبت لمن أيقن بالحساب غدا ثم لا يعمل” 4 . خوفا ورجاء وحياء…
قال أبو العتاهية:سألتُ الدار تُخبرني
عن الأحباب ما فعلوا
فقالت لي: أناخ القوم
أياما وقد رحلوا
فقلت:فأين أطلبهم
وأي منازل نزلوا
فقالت: بالقبور وقد
لقوا والله ما فعلوا
أناس غرّهم أمل
فبادرهم به الأجل
فنوا وبقي على الأيام
ما قالوا وما عملوا
وأثبت في صحائفهم
قبيح الفعل والزلل
فلا يستعتبون ولا
لهم ملجأ ولا حيل
ندامى في قبورهم
وما يغني وقد حصلوا